فصل: القسم الثاني من مقاصد المكاتبات الإخوانيّات: مما يكتب به الرئيس إلى المرؤوس والمرؤوس إلى الرئيس والنظير إلى النظير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.القسم الثاني من مقاصد المكاتبات الإخوانيّات: مما يكتب به الرئيس إلى المرؤوس والمرؤوس إلى الرئيس والنظير إلى النظير:

قال في مواد البيان: ولها موقع خطير من حيث تشترك الكافّة في الحاجة إليها. قال: والكاتب إذا كان ماهراً، أغرب معانيها، ولطف مبانيها، وتسهّل له فيها ما لا يكاد أن يتسهّل في الكتب التي لها أمثلةٌ ورسومٌ لا تتغير ولا تتجاوز، وهي على سبعة عشر نوعاً:
النوع الأول: التهاني:
قال في مواد البيان: كتب التهاني من الكتب التي تظهر فيها مقادير أفهام الكتاب، ومنازلهم من الصناعة، ومواقعهم من البلاغة.
وهي من ضروب الكتابة الجليلة النفيسة، لما في التهنئة البليغة من الإفصاح بقدر النعمة، والإبانة عن موقع الموهبة، وتضاعف السرور بالعطية.
وأغراضها ومعانيها متشعبة لا تقف عند حد، وإنما نذكر منها الأصول التي تفرعت منها فروعٌ رجعت إليها، وحملت عليها.
قال: ويجب على الكاتب أن يراعي فيها مرتبة المكتوب إليه والمكتوب عنه في الرسالة اللائقة بهما مما لا يتسامح بمثله.
ثم التهاني على أحد عشر ضرباً:
الضرب الأول: التهنئة بالولايات:
وهي على تسعة أصناف:
الصنف الأول: التهنئة بولاية الوزارة:
قد تقدم في المقالة الثانية في الكلام على ترتيب المملكة أنّ الوزارة كانت في الزمن المتقدم هي أرفع وظائف المملكة وأعلاها رتبةً، وأنها الثانية بعد الخلافة.
وكانت في زمن الخلفاء تكاد أن تكون كالسلطنة الآن، فهي من الأتباع ومن في معنا هم على نحو ما كانت في الزمن المتقدم بين الرؤساء والأكابر، ومن الرؤساء والأكابر بحسب ما تقتضيه رتبة المهنّإ.
وهذه نسخ تهانٍ من ذلك على ما كان عليه الحال في الزمن القديم.
تهنئةٌ بوزارة: من إنشاء أبي الحسين بن سعد، كتب بها إلى الوزير محمد بن القاسم بن عبيد رحمه الله، وهي: من كانت النعمة- أيد الله الوزير- نافرةً عنه وبفنائه غريبة، فهي تأوي من الوزير إلى مثوىً معهود، وكنف محمود، وتجاور منه من يوفّيها حقّها، ويقابلها بحسن الصحبة لها، ويجري في الشكر لما يولاه، والرعاية لما يسترعاه، على شاكلةٍ مضى عليها السلف من أهله، ونشأ في مثلها الخلف، مقتدياً بالأول الآخر، وبالماضي الغابر، تشابهاً في كرم الأفعال، ورعايةً لحقوق الآمال، واعتماداً للرأفة والرحمة، وعموماً بالإنصاف والمعدلة، إلى ما خصّ الله به أهل البيت رضي الله عن الماضين منهم وأقام عزّ الباقين وحراستهم: من العلم بالسياسة والدّرابة بتدبير المملكة ورعاية الأمة، والهداية فيهم لطرق الحيطة ونهج المصلحة.
والحمد لله على ما خصّ به الوزير من فضله الذي رفع قدره فيه عن مساماة ومشاكلة المقادر والشبيه، وجعله فيما حباه به نسيج وحده، وقريع دهره، وجمع له مواهب الخير، وخصائص الفضل ما أبان به موقعه في الدّين، وأعطاه معه الولاية من جميع المسلمين.
والحمد لله حمداً مجدّداً على ما جدّده له من رأي أمير المؤمنين واجتبائه، ومحله من اختياره واصطفائه.
والحمد لله على ما منحه من كرامته، وجدّد له من نعمته، فيما أعاد إلى تدبيره من وزارته، وأشركه فيه من أمانته، احتياطاً منه للملكة، ونظراً للخاصّة والعامّة، فإنّ عائدة رأيه سوّت بين الضعيف والقوي، ووصلت إلى الداني والقصيّ، وأعادت إلى الملك بهاءه، وإلى الإسلام نوره وضياءه، فاكتست الدنيا من الجدّة بعد الإخلاق، والنضارة بعد الإنهاج، ما لم يكن يوجد مثله إلاّ بالوزير في شرف منصبه، وكرم مرّكبه، فهنّأ الله الوزير ما آتاه وتابع له قسمه، ووصل له ما جدّد له بالسعادة، وأمدّه فيه بالزيادة، وأعطاه من كلّ مأمول أعظم حظّ وأوفر نصيب وقسم، تراخياً في مدّة العمر، وتناهياً في درجة العزّ، واحتياطاً بالموهبة في العاجلة، وفوزاً بالكرامة في الآجلة، إنّه فعّالٌ لما يشاء.
تهنئةٌ أخرى في مثل ذلك: أوردها في ترسّله، وهي: التهنئة بالوزير للزّمان وأهله بما جمّلهم به، وجدد لهم من ميسم العزّ، وسربلهم إياه من حلّة الأمن بولايته، والنعمة على أوليائه ورعاياه على حسب مواقعهم من مشاركته وحظوظهم من معدلته ظاهرةٌ، ولله على ذلك الحمد الفاضل، والشكر الكامل. وللوزير من هذه النعمة الجليلة، والدولة السعيدة، أهناها موقعاً، وأسراها ملبساً، وأدومها مدةً، وأجملها نغية، وأثراها مبوّءاً، وأسلمها عقبى، فتولاه الله بالمعونة والحراسة، وأيّده الله بالنصر والكفاية، وأنهضه بما قلّده واسترعاه، وبلغه محابّه ومناه، وأرجو أن يكون موقعي من ثقة الوزير يلحقني عنده بمن مكّنته الأيام من قضاء الحقّ في التلقي والإبعاد، ويعوّضني بتفضيله مما حرمته منها محلّ ذوي الإخلاص والإعتداد.
تهنئة أخرى في مثل ذلك: أوردها في ترسّله أيضاً، وهي:
وهذا أوّلٌ يتلوه ما بعده بلا تناهٍ ولا نقص بإذن الله ومشيئته، بل يكمن موصولاً لا تبلغ منه غايةٌ إلا شفعتها درجةٌ ترقى، تكنف ذلك كفايةٌ من الله شاملةٌ كاملةٌ، وغبطةٌ في البدء والعاقبة بلا انقطاع ولا ارتجاع، حتّى يكون المنقلب منه بعد بلوغ العمر منتهاه، إلى فوزٍ برحمة الله ورضاه. فهنيئاً للوزير بما لا يقدر أحدٌ أن يدّعي فيه مساعفة المقدار، ولا يناله بغير استحقاق، إذ لا مثل ولا نظير للوزير: فضلاً ظاهراً، وعلماً على العلوم موفياً، وسابقةً في تقليب الخلافة ظهراً لبطن، وحلب الدّهر شطراً بعد شطر، وجمعاً من مال السلطان لما كان متفرّقاً، وحفظاً لما كان ضائعاً، وحمايةً لبيضة الملك، وضبطاً للثّغور، وتلقّياً للخطوب بما يفلّ حدّها، ويطفئ نارها ولهبها ويقيم أودها، وما وهب الله في رأيه من فتح البلاد المرتجة، وقمع الأعداء المتغلّبة، وسكون الدّهماء، وشمول الأمن، وعموم العدل، والله يصل ذلك بأحسنه.
تهنئة أخرى في مثل ذلك: من إنشاء عليّ بن خلف في مواد البيان وهي: أطال الله بقاء حضرة الوزارة السامية، فارعةً من المعالي أسمقها نجوداً، كارعةً من المنن أعذبها وروداً، ساحبةً من الميامن أرقّها بروداً، ممتّعةً بالنّعم التي يرامي الشّر عن حوزتها، ويحامي البشر عن حومتها، مبلّغةً في أوليائها وأعدائها، قاضيةً ما ترتمي إليه رحابها، فلا ترى لها وليّاً إلاّ لاحب المذاهب، ثاقب الكوكب، سامي الطّرف، حامي الأنف، ولا عدّواً إلا ضيّق المطرح، وعر المسرح، صالد الزند، مفلّل الحد، راغم العرنين، متلولاً للجبين.
ولازالت أزمّة الدنيا بيدها حتّى تبلغ بآمالها منتهاها، وتجري بأيّامها إلى أقصى مداها، فهي من أعظم النّعم خطراً، وأحسنها على الكافّة أثراً، وأولاها بأن يفاض في شكرها، وتتعطّر الآفاق بذكرها.
ولسيدنا الوزير الأجلّ يراعٌ يستيقظ في صلاحهم وهم هاجعون، وينصب في الذبّ عنهم وهم وادعون، وكل تدبيرهم فيه، إلى مدبرّ يخاف الله ويتّقيه، ويعمل فيمن استرعاه بما يرتضيه، ولا يمدّ يد الاقتدار عليهم متسلّطاً، ولا يتّبع دواعي الهوى فيهم متسقّطاً، واضعاً الأشياء في حقائقها، سالكاً بها أمثل طرائقها، ملايناً من غير ضعف، متخاشناً من غير عنف، قريباً من غير صغر، بعيداً من غير كبر، مرغّباً بلا إسراف، مرهباً بإنصاف، ناظراً إلى محقّرات الأمور وأطرافها، كما ينظر في معاظمها وأشرافها، آخذاً بوثائق الحزم، متمسّكاً بعلائق العزم، رامياً بفكرته من وراء العواقب، خاطماً بآرائه أنوف المصاعب، ناظماً بإيالته عقود المصالح، موطّئاً برياضته ظهور الجوامح، إن ثقّف ذا النّبوة الفريدة، والهفوة الوحيدة، اقتصر على ما يوافقه الوالد الحب، من مقوّم الأدب وإن قبض على المرتكس في غوايته، المفلس في عنايته، ضيّق عليه مجال العفو، وأحاق به أليم العذاب والسّطو، فقد سكنت الرعيّة في عدله، وأوت حرماً منيعاً من ظلّه، ووثقت أنّ الحق بنظره شامخ شاهق، والباطل سائخ زاهق، والإنصاف مبسوط منشور، والإجحاف محطوط مبتور، والشّمل منظوم، والشّرّ مضموم.
فنطقت ألسنتها بإحماده، واشتملت أفئدتها على وداده، واتفقت أهواؤها على رياسته، وتطابقت آراؤها المسابقة على دوام سيادته، وعرف أمير المؤمنين عدق النظر في دولته، وسلّم أمور مملكته إلى النّصيح المأمون، والنّجيح الميمون، الذي وفّقه الله تعالى لاختياره، ويسّره لاصطفائه وإيثاره، وأنّه قد أناط أموره بمن لم يستخفّ ثقيل حملها، وينوء بباهظ ثقلها، فتمتّع بلذيذ الكرى، وتودّع بعد السّير والسّرى، وألمٍ من إلمام ملمٍّ معضل، وحدوث حدثٍ مشكل.
وهذه نعمةٌ تعمّ الخاصّة والعامّة عموم الغيث إذا همع وتدفّق، وتشملهم شمول الّنهار إذا لمع وتألّق، وهم أولى بالتهنئة فيها وشكر الله تعالى عليها.
وسيدنا الوزير حقيق بأن يهدى إليه الدعاء المرفوع، والتضرّع المسموع، بأن ينهضه الله تعالى بما حمّله، ويعينه على ما كفّله، ويتولاّه بتوفيق يثقب أنواره، وتأييدٍ يطبّق غراره، وتسديدٍ يحسّن آثاره، وإجراء ما يتولاه على أوضح سبيلٍ وأقصده، وأرجح دليلٍ وأرشده، إذ لا يجوز أن يهنّأ بماله عياؤه وكلّه، ولمذعنيه صلاحه كلّه.
والعبد يسأل الله ضارعاً لديه، باسطاً يده إليه، في أن يقبل صالح أدعيته لحضرة الوزارة السامية، وأن يجعل ما أحلّه في محلّه من رياستها، وأوقعه في موقعه من سياستها، دائباً لا ينتزع، وخالداً لا يرتجع، وأن يؤيّدها فيه بما يقضي له بالإحراز والتّخويل، ويحميه من الابتزاز والتحويل، إنّه سميع الدعاء، فعّالٌ لما يشاء، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني: التهنئة بكفالة السلطنة:
وهذه نسخةٌ من ذلك، كتب بها عن نائب الشام، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهي بعد الألقاب: لازال دائراً بهنائه الفلك، منيراً بضياء عدله وبشره الحلك، قريراً بحسن كفالته الملك، شاهداً بفضل أسمائه وسماته الملك، مقسوماً بأمر الله نداه وبأسه ليحيا من حيّا ويهلك من هلك، تقبيلاً يشافه به التّراب، ويشاهد شرف مطلعه على السّحاب.
وينهي قيامه على قدم ولاءٍ ودعاء: هذا ينزل القلب وهذا يصعد إلى الأفق، ومقامه على بشرى وحمدٍ منهما الأمن يحلّى بوصفه النّطق كما تحلّى الأعطاف بالنّطق، وأنّه ورد مثالٌ شريفٌ على يد فلانٍ يتضمّن البشارة العامّة، والمسرّة التامّة، والنعمة التي يعوّذ سنا جبينها من كل عينٍ لامّة، وخبر الخير الذي حيّت أزهاره المتضوّعة ندّ مصر فأوّل ما بلّغه منافس الشام شامّة، بأنّ المواقف الشريفة- أعزّ الله تعالى سلطانها- قد فوّضت إلى مولانا كفالة الإسلام وبنيه، وكفاية الملك بصالح مؤمنيه، ونيابة السلطنة الشريفة وما نسقت، وتدبير الممالك وما وسقت، فيالها بشرى ابتسمت لها ثغور البشر، ومسرّةً استجلى سناها من آمن وبهت الذي كفر، وخبراً تلقّت الأسماع بريده منشدة: قل وأعد بأطيب الخبر، هنالك أخذ المملوك حظّه من خير بشرى، ونصيبه من مسرّةٍ حمد بصباح طرسها المسرى؛ وحمد الله تعالى على أن أقام لسلطان البسيطة من يبسط العدل والإحسان لمنابه، ويقلّد رعيّته عقود النّعم إذا تقلّد ما وراء سريره وبابه، ومن إذا كفل سيفه ممالك الإسلام وثقت بالمغنم والسّلامة، وإذا كتب قلمه قالت، ولا سيّما أخبار جند المسلين: هكذا تكون العلامة، وجهّز المملوك هذه الخدمة نائبةً عنه في تقبيل الأرض، وعرض الهناء بين يدي، من يسرّ المملوك بولائه اليوم ويرجو أن يسرّ به يوم العرض، ولو وصف المملوك ما عنده من السرور والشّوق لضاق الورق عن تسطير الواجب منه وضاق الوقت عن أداء الفرض. والله تعالى يجدّد لمولانا ثمرات الفضل الواضح، والرأي الرابح، والقدر الذي هو على ميزان الكواكب راجح، ويمتّعنا كافّة المماليك بدولة سلطانه الذي علم البيت الشريف أنّه على الحقيقة الخلف الصّالح.
وهذه نسخة تهنئةٍ لأمير جاندار بولاية إمرة جاندار، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهي بعد الألقاب: أعلى الله منارها ومنالها، وخلّد قبولها وإقبالها، وأجزل من الغضّ الذي تنأولته ثمرها وأسبغ به ظلالها، ولازال في سيفها وعصاها مآرب للملك، وفي بأسها ونداها مواقع للنّجاة والهلك، ولا برحت القضب من سيوف وغصون: هذه حاكمةٌ بسعدها حكم الملك، وهذه مسخّرة في تجريدها تسخير الفلك، تقبيل مخلصٍ في ولائه ودعائه، مهنّإ القلب مسرورٍ بما يتجدّد من مسرّات مولانا وهنائه، وينهي أنه بلغه ما أفاضته الصدقات الشريفة على مولانا من المبرّات، وما جدّدت له من المسرّات، وأنها ضاعفت مزيد الإحسان إليه، ودعته أمير جاندار ودّت العصيّ النّجوميّة لو قدّمت نفسها بين يديه، وأنّ المواقف الشريفة قرّت به عيناً وأقرّت، وأنّ الدولة القاهرة ألقت عصاها إليه واستقرّت؛ وكما سلّمت إليه العصا في السلم سلّمت إليه السيف في الحرب، وكما قرّبته في مواقف العدل والإحسان قرّبته في مواقف الطّعن والضرب، فأخذ المملوك حظّه من البشرى، وأوجب على نفسه الفرح وسجد لله شكراً، وودّ لو حضر يشافه بهذا الهناء الشامل، ومثل قائماً لديه بحقّ التهنئة القيام الحقيقيّ الكامل. وحيث بعدت داره، ونأت عن العيان أخباره، فقد علم الله تعالى مواصلته بالأدعية الصالحة ليلاً ونهاراً، والموالاة والمحبّة التي يشهد بها الخاطر الكريم سرّاً وجهازاً؛ والله تعالى المسؤول أن يزيد مولانا من فضله، ويسرّه بمتجدّدات الخير الذي هو من أهله، ويمتّعنا كافّة المماليك بدوام سلطان هذه الدولة الذي شمل بظله، وغني بنصره عن نصله، إنشاء الله تعالى.
الصنف الثالث: التهنئة بالإمارة:
من كلام الأقدمين، تهنئة من ذلك، أوردها أبو الحسين بن سعد في ترسّله، وهي: وهنأ الله الأمير مواهبه الهنيّة، وعطاياه السويّة، وأدام تمكينه وقدرته، وثبّت وطأته، وحرس ما خوّله، وجعل ما هيّأ له من مؤتنف الكرامة أيمن الأمور فاتحةً وأسعدها عاقبة، ووصل أيّامه بأجمل الولاية، وأجلّ الكفاية، حتّى ينتهي من استيفاء سعادات الحظوظ وحوز القسم والآمال، إلى الدرجة التي تليق بما أفرده الله به من الكمال، وخصّه به من الفضل في جميع الخصال.
ومن أفضل ما أعتدّ به من نعم الله عليّ بالأمير وبجميل رأيه، ومحلي من طاعته وخدمته، أني لا أخلو في كلّ وقت وحالٍ من بهجة تتجدّد لي، ومسرّةٍ تصل إليّ، وتتوفّر عليّ، بما يسهّله الأمير على يده من مستصعب الأمور، ومستغلق الخطوب، التي تبعد عمّن يزأولها، ويجعل الله بطوله وحوله للأمير القدرة عليها، ويتوحّد بالكفاية فيها، فينمو بجميل تدبيره ولطيف نظره، ويطّرد بصاعد نجمه ويمن نقيبته وعزّ دولته، وذلك من فضل الله ونعمته، يؤتي فضله من يشاء وهو ذو الفضل العظيم.
الصنف الرابع: التهنئة بولاية الحجابة:
وقد كان لها في الزمن القديم المحلّ الوافر في الدولة وعلوّ الرتبة فيها.
من كلام الأقدمين:
تهنئةٌ من إنشاء أبي الحسين بن سعد، كتب بها إلى أبي بكر بن ياقوت حين ولي الحجابة بعد نكبة أصابته، وهي بعد الصدر: وقد كانت أنفسنا معشر عبيد سيدنا وحملة إنعامه، ومؤّملي أيامه، في هذه الأحوال التي نفد سيدنا منها فيما ابتلاه صبره، وأبان فيه قدره، وزاد العرف بفضله نفوذاً في البصيرة، وأعاد ذوي الارتياب فيه إلى الثقة، فاستوى المنازع والمسلّم، واستوى العالم والمعاند- نعمةٌ منه تعالى ذكره خصّه بها وصانه عن مشاكلة النظير، ومزاحمة الأكفاء على سبيل من القلق والارتماض، والسّقوط والانخفاض، جزعاّ من تلك الحالة الغليظة، وإشفاقاً على تلك النّفس النّفيسة، وخوفاً على معالم البرّ والتّقى، وبقيّة العلم والحجا، وتاريخ الكرم والنّدى، أن يدرس منارها، وتطمس آثارها، ولولا ما منّ الله به من الخلاص منها وما منح بكرمه في عاقبتها، لأوشكت أن تأتي عليها وتعجلها عن مواقيت آجالها، لكنه عظمت آلاؤه، وتقدّست أسماؤه، أتى بالأمن والفرج، بعد استيلاء الكرب والوجل، وانبتات أسباب الرّجاء والأمل، فعرف سيدنا موقع الخيرة فيما قضاه، وميّز له الخبيث من الطيّب ممّن عاداه وتولاّه، وجعل النعمة التي جدّدها له فيما ردّه أمير المؤمنين إلى تدبيره من أمر داره ومملكته، وحراسة بيضة رعيّته، مشتركة النّفع والفائدة، مقسومة الخير والعائدة، بين كافّة الأمّة فيما عمّ من المعدلة، وشمل من المصلحة، ولاح من تباشير الخير، وأمارات البركة، في استقامة أمور البلاد وصلاح أحوال العباد، وأفرد الله سيدنا بحظٍّ من الموهبة وفّاني فيه على حظوظ الأولياء، وزادني على سهام الشّركاء.
وأنا ارغب إلى الله في إسعاد سيدنا بما جدّده له، وتعريفه بركة مفتتحه ويمن خاتمته.
والحمد لله في مبتداه، والسلامة في عقباه، وتبليغه من حظٍّ مأمول، وخيرٍ مطلوب، وحالٍ عليّة، ورتبة سنيّة، أفضل ما بلّغ أحداً اختصّه بفضله، واصطفاه من خلقه، إنه جواد ماجد.
فإن رأى سيدنا أن يتطوّل بإجراء عبده على كريم عادته في تشريفه بمكاتبته، وتصريفه في أمره ونهيه، محقّقاً بذلك أمله، وزائداً في نعمه عنده، فعل إن شاء الله تعالى.
تهنئةٌ أخرى من ذلك، من إنشاء علّي بن خلف أوردها في مواد البيان وهي:
إنما يهنّأ بالولاية- أطال الله بقاء الحاجب الجليل سيّدي ومولاي- من انبسطت إليها يده بعد انقباض، وارتفع لها قدره من انخفاض، وأوجدته الطريق إلى إحراز جزيل الأجر والجزاء، واكتناز جميل البركة والثّناء، وأفضت به إلى اتّساع السّلطان، وانتفاع الأعوان، فأمّا من جعل الله يده الطّولى، وقدره الأعلى، ورياسته حاصلةً في نفسه وجوهره، وسيادته مجتناةً من سنخه وعنصره، فالأولى- إذا استكفي رغبةً في إنصافه وعدله، وحاجةً إلى سداده وفضله، وافتقاراً إلى فضل سيرته، واضطراراً إلى فاضل سياسته- أن تهنّأ الرعيّة بولايته، وتسرّ الخاصّة والعامّة بما عدق من أمورها بكفايته؛ وغير بدعٍ ربط أمير المؤمنين بالحاجب الجليل أمر حجابته، ونصبه الزّحمة عن حضرته، وجعله الوسيط والسفير بينه وبين خواصّ دولته، وقد وثق بيمن نقيبته، واطّلع على خلوص نيّته، وسكن إلى صدق طاعته، وعرف طهارة جيبه، وسلامة غيبه، وصدق لهجته، وحصافة أمانته، واعتماده للحقّ فيما يورد ويصدر، وينهي ويجيب، وابتلاه فعرف طيب طعمته، وخفّة وطأته، ورأفته بالضّعيف المهضوم، وغلظته على العسوف الظّلوم، فرأى أن يحلّه محلّ من لا يغيب عمّا شهده، ولا يرتاب بما سمعه، على أنّني المهنّأ بكل نعمةٍ يجدّدها الله لديه، وسعادةٍ يسبغها عليه.
ولو أنصفت لسلكت من الصّواب سنناً، واعتقدت جميلاً حسناً؛ لاستشعار بالأنفس من لبوس سيادته، وتحلّيّ بالأنصع من عقود رياسته، وإذا كانت رعيّته أجدر أن تهنّأ بولايته، وتعرف قدر مالها من الحظ في نظره، فأنا أعدل من هنائه إلى الدّعاء له بأن يبارك الله تعالى له فيما قلّده، ويوفّقه فيما ولاّه ويسدّده، ويلهمه ادّخار الثواب والأجر، واكتناز الحمد والشكر، والهداية إلى سنن الاستقامة، وما عاد بمحبّة الخاصّة والعامّة، وإنهاضه في خدمة أمير المؤمنين، والعمل من طاعته بما يزلف في الدنيا والدين.
والله يستجيب في الحاجب الجليل هذا الدعاء ويسمعه، ويتقبّله ويرفعه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الخامس: التهنئة بولاية القضاء:
التهنئة بذلك من كلام الأقدمين: تهنئة من ذلك: من إنشاء عليّ بن خلف، أوردها في مواد البيان وهي: أولى المنح أن يتفاوض شكرها والتحدّث بها، ويتقارض حمدها والقيام بواجبها، نعمةٌ شمل عطافها، وعمّت ألطافها، واشترك الناس فيها اشتراك العموم وحلّت منهم في النفع محلّ الغيث السّجوم.
وهذه صورة النعمة في ولاية قاضي القضاة- أطال الله بقاءه- لما تتضمّنه من إثبات العدل والإنصاف، وانحسار الجور والإجحاف، واعتلاء الحقّ وظهوره، واختلاء الباطل وثبوره، وعزّ المظلوم وإدالته، وذلّ الظّلوم وإذالته، وتمكين المضعوف واقتداره، وانخزال العسوف واقتساره.
وإن هنّأته حرس الله علاه بموهبة أتى بارقها بجميل الثّناء، وجزيل الجزاء، قد ناء من تحمّلها بباهظ الشيء ومتعبه، وقام من سئلها بكل الأدب ومنصبه، عدلت عن الأمثل وضللت عن الطريقة المثلى، لكنّي أهنّئه خصوصاً بالمواهب المختصّة به اختصاص أطواق الحمائم بأعناقها، والمناقب المطيفة به إطافة كوكب السّماء بنطاقها، في أن ألّف الله القلوب المتباينة على الإقرار بفضله، وجمع الأفئدة المتنافية على الاعتراف بقصور كلّ محلٍّ عن محلّه، وجعل كلّ نعمةٍ تسبغ عليه، ومنّ تسدى إليه، موافقة الآمال والأماني، مفضيةً للبشائر والتّهاني؛ لأنّ من أحبّ الحقّ وآثره، ولبس الصّدق واستشعره، ينطق بلسان الإرادة والاختيار، ومن تركهما وقلاهما، وخلعهما وألقاهما، ينطق بلسان الافتقار والاضطرار والخصائص التي هو فيها نسيج وحده، وعطر يومه وغده، والمحاسن التي هي أناسيّ عيون الزّمان، ومصابيح أعيان الحسن والإحسان.
ثم أعود فأهنّئه عمومأ بالنّعم المشتركة الشّمول، الفضفاضة الذّيول، التي أقرّت القضاء في نصابه، وأعادت الحكم إلى وطنه بعد نجعته واغترابه، وأعلتهما في الرّتبة الفاضلة، وقدعت بهما أنف الذّروة العالية.
وأرفع يدي إلى الله تعالى داعياً في إمداد قاضي القضاة بتوفيقٍ يسدّد مراميه، ويرشد مساعيه، ويهذّب آراءه ويصحّحها، ويبلج أحكامه ويوضّحها، ويخلّد عليه النعمة خلودها على الشاكرين، ويبصّره بحسن العقبة في الدنيا والدّين، وهو سبحانه يتقبّل ذلك ويرفعه، إن شاء الله تعالى.
التهنئة بذلك من كلام أهل العصر:
تهنئةٌ من ذلك: أوردها الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ في كتابه زهر الربيع في الترسّل البديع وهي: أنفذ الله تعالى أحكامه، وشكر إحسانه وإنعامه، وخلّده ناصراً للشريعة المطهّرة وأدامه، وجدّد سعده وأسعد أيامه، وجعله المسترشد والمقتفي بأمر الله والرّاشد والمستنجد والمستنصر والناصر والعاضد، والحاكم القائم بأمر الله من القضاة الثلاثة الواحد.
المملوك يقبّل اليد العالية تبرّكاً بتقبيلها، وأداءً لواجب تعظيمها وتبجيلها، ويهنّيء المولى بما خصّه الله تعالى من مضاعفة نفاذ كلمته ورفع منزلته، وإمضاء أحكامه الشريفة وأقضيته، وتقليده أمور الإسلام، وتنفيذ أوامره في الخاصّ والعام، ويهنّيء بالمولى من ردّت أموره إليه، وعوّل في ملاحظة مصالحه عليه، فإنّ مولانا مازال بالعلم والعمل مشهوراً، وسعيه في الدنيا والآخرة سعياً مشكوراً، ويقظة مولانا جديرةٌ بزيادة الاهتمام، والاحتياط التامّ، بملاحظة طلبة العلم والمشتغلين، والفقهاء والمدرّسين، وسبر أحوال النّوّاب، وأن لا يكفيه الاعتماد على حسن البزّة وطهارة الأثواب، بل يمعن في الاطّلاع على ما يعتمدونه النّظر، ويلاحظ كلاّ منهم إن غاب عن مجلسه أو حضر، فمن رآه يهدي إلى الحق والطريق المستقيم، ولا يقرب إلا بالتي هي أحسن مال اليتيم، فيحقّق له من العناية أملاً، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً، حرس الله المولى ومتّع حياته، وأعاد على الكافّة بركة صيامه المقبول وصلاته، ونفع الإسلام بمستجاب دعواته، إن شاء الله تعالى.
الصنف السادس: التهنئة بولاية الدعوة على مذهب الشّيعة:
وقد تقدّم في الكلام على ترتيب المملكة في الدّولة الفاطميّة، بالديار المصرية، ذكر موضوعها وعلوّ رتبتها عندهم، وإنما ذكرناها حفظاً للأصل ولاحتمال وقوعها.
تهنئةٌ من ذلك: من إنشاء عليّ بن خلف، أوردها في موادّ البيان وهي: أطال الله بقاء داعي الدّعاة لصباح من الرحمة يبلجه، وطريقٍ من الحكمة يظهر بيانه، وليلٍ من السّنّة ينزع طيلسانه، وحرسه على الإيمان يجدّد ما أخلق من بروده، وينظّم ما وهى من عقوده، وعلى المؤمنين يفتح لهم أبواب الرّشاد، ويهمي إليهم سماء الإفادة والإمداد، ولا زالت الحقائق مقصودةً منه بالميزة التي رشّحته لحفظ مبانيها، وأهّلته للعبارة عن معانيها، حتّى يرقمها في الأخلاد، ويمحو بها رسوم العناد، وينشر بشرها في الآفاق والبلاد. أنا أعدل عن هناء داعي الدّعاة- أطال الله بقاءه- بما عدق به من أمر الدّعوة الهاديّة العلويّة، ونصب له من فرّ مضاحك المشكلات عن أسرار الحقائق الإلهيّة، والترجمة عن غوامض الحكم الشّرعيّة، والتوقيف على موارد الهدى ومشارعه، والإرشاد إلى مشارق الحق ومطالعه، إلى هناء الدّعوة وأهلها بما قيّضه الله تعالى لهم من محلّه الرفيع الذي ألحقه العقل نحو هذا الكمال، ووطّأ له مدارج الترقّي والاتّصال، فشفّت نفسه وشرفت، وتطلّعت على عالم الملكوت وأشرفت، وجنى بيد التّبصرة ثمار الحكمة واستنزل بمنزل الموادّ غيوث النّعمة، وجرّد الضّياء من الظلام، تجريد الأرواح من الأجسام إلى دار السلام، واستمدّ بلطيفته موائد علوم عالم اللّطافة، وأمدّ بمركّب ألفاظها تحاكم الكافة، وحلّ في الغبراء محلّ الغرّاء في الخضراء، إن أوضحت سبيل سائرٍ بجنب طريقٍ جائر توصّل بنزوعها غاشية إظلام، حسر عن الحق قناع إبهام، أو فعلت في الجواهر زيادة وثمرة أخذت تعادياً فأدلته للهمم العاملة شرفاً وسموّاً؛ لما أعلى بذلك من قدرها وقدرهم، وطيّب من ذكرها وذكرهم، وأعطف إلى الدعاء لداعي الدّعاة بأن يجعل الله تعالى ما خوّله من هذه الرّياسة راهناً لا يرتجع، وما نوّله من هذه السيادة مستقرّاً لا ينتزع، وأن يؤيّده بالتوفيق، ويعبّد له مناهج التحقيق، ويطلق لسانه بالبيان، ويمدّه بروح منه في نصرة الإيمان، وقد حتم الله تعالى بإجابة داعيه، ولا سيما داعي الدّعاة فإنه جدير بأن يجاب الدعاء فيه، إن شاء الله تعالى.
قال في موادّ البيان: وإنما أوردت هذا المثال بهذه الألفاظ؛ لأن ألفاظ هذا الدّاعي يجب أن تكون مشتقّة من ألفاظ الدعوة، مناسبةً لمذهبها، ولولا ذلك لأغنى عنه مثال تهنئة قاضي القضاة، ومن تأملهما عرف ما بينهما من الفرقان.
الصنف السابع: التهنئة بالتقدمة على الرجال:
رقعةٌ من ذلك من حلّ محلّ سيدي- أطال الله بقاءه- من السّؤدد الناطق الشّواهد، المنتظم المعاقد، المتضارع الطارف والتالد، المنتقل في الولد عن الوالد، والمجد الذي قصر عن مطأولته الطّراز الأوّل، وتطأطأ له الإنعام المخوّل، وحاز ما حازه من شرف الرّياسة، وفضل السّياسة، والاستقلال بحقوق ما تولاّه، وتسديد ما نوّله واستكفاه، فتشوّفت إليه أعالي الرّتب وتشوّقت إليه المنازل السنيّة من كثب، خاطبته العلا سائقة عنه مهرها، وتطامنت له موطّئةً ظهرها، فلم يكثر له أن يتقدّم على أهل عصره فضلاً عن قبيلته، ويتأمّر على جميع نوعه فضلاً عن طائفته، لأنه المقدّم عليهم بالرّتبة والطّبع، لا بالاصطلاح والوضع، فشكر المملوك الله تعالى على بزوغ هلاله وإبراقه، وطلوعه لميقات العز وتنافقه، وسأله أن يجعل ما أقرّ العيون من سيادته، وحقّق الظنون في سعادته، خالداً راهناً، ومقيماً قاطناً، وأن يزيده في السعادة، ويرقّيه كلّ يوم في درج السيادة، لتكون هذه الرتبة على امتناع مرقبها، وارتفاع مركبها، أوّل درجة تخطّاها، ومنزلةٍ فرعها وعلاها، ثم لا يزال راقياً فيما يتلوها حتّى يحتذي بكواكب الجوزاء، ويطحو دارةً على الحلفاء، مهنّأً غير منغّص، ومزيّداً غير منقّص، والله تعالى يجيب هذه الأدعية الواقعة مواقعها، والمستحقّات الموضوعة مواضعها.
الصنف الثامن: التهنئة بولاية الديوان:
رقعةٌ من ذلك، وينهي أنّ من حلّ محلّ مولانا- أطال الله بقاءه رافلاً في لبوس السّعادة، متحفّلاً بسلوس السًيادة، متنقّلاً في رتب المجد، متوقّلاً إلى غدن الجدّ، مستولياً على شعاب العلا، متمكّناً من رقاب الأعداء- في الاستقلال والاضطلاع، والمعرفة بحقوق الاصطفاء والاصطناع، ورفعة مذهبه على الكفاية والغناء، والنهوض بثقيل الأعباء، خطبته التصرّفات حاملةً عنه صداقها، وتشوّفته الولايات مادّةً إليه أعناقها، وقد اتصل بالمملوك ما جدّده الله تعالى من سعادته، وأنجزه من مواعيد سيادته، التي كانت واضحةً في مخايل فضله، لائحةً في دلائل نبله، مكتوبةً في صفحات الأقدار، مرقومةً بسواد اللّيل على بياض النهار، فجذل المملوك بذلك، جذل الحميم المشارك، وسرّ به سرور الخليط المشابك، وليس ذلك لأنّ الذي تولاّه مولانا وجد فيه خللاً فرقعه، وخمولاً فرفعه؛ بل لأنّ الحقّ غالب الحظّ فغلبه، والواجب سالب الممكن فسلبه، وأناخ ركاب الرّياسة في المحلّة الخصب الذي يحمده ويرتضيه، والله تعالى يتفضّل على رعيّته، المتوطّنين بفاضل سياسته، من حبائه ولطفه، ورأفته وعطفه، بما يسبغ عليهم ظلال العدل، ويقلّص عنهم سدول الجور والحيف، إن شاء الله تعالى.
قلت: وكتبت للمقرّ البدريّ محمودٍ الكلستاني الشهير بالسّراي مهنّئاً له باستقراره في كتابة السّرّ الشريف بالديار المصرية في الدولة الظاهرية برقوق في سلطنته الأولى: [بسيط]
رفعت للمجد مذ وليّت بنيانا ** وشدت للفضل بعد الوهن أركانا

وأصبح الملك في زهوٍ ومالكه ** يميس عجباً وهنّا التّخت إيوانا

قدمت مصراً فأمست منك في فرهٍ ** تهزّ بالبشر من لقياك أردانا

وغودر النّيل مذ وافيت مبتهجاً ** وقد رمى الصّدّ والإبعاد جيحانا

ألفاظك الغرّ صارت للورى مثلاً ** وكتبك الزّهر بعد اللّثم تيجانا

تفوق قسّاً إذا تبدو فصاحتها ** وتفضح المصقع الملاّق سحبانا

قد أفحمت في مجازاتٍ بلاغتها ** تركاً وروماً وبعد الفرس عربانا

كلّ الموالي إذا ولّوا فلا أسفٌ ** إذ أنت باقٍ ويبقي الله مولانا

مولىً به قد تشرّفنا وجمّلنا ** بوجهه ولذكر القوم أنسانا

الصنف التاسع: التهنئة بولاية عمل:
أبو الفرج الببّغاء، عرّف الله سيدي بركة هذا العمل الجليل، بنبيل نظره الجميل، وحميد أثره المحروس، وتناصر سياسته الشريفة بسمة رياسته، ووفّق رعيّته لشكر ما وليها من فائض عدله ومحمود فعله، فالأعمال منه- أيده الله تعالى- بالتهنئة أولى، وبالتّطأول بما شملها من بركات تدبيره أحرى، والله بكرمه يسمع فيه صالح الدعاء، ويبلّغه أبلغ مدد البقاء، في أسبغ نعمة، وأرفع منزلة، وأصدق أمنيّة، وأنجح طلبة، بمنّه.
وله في مثله: لولا ما يشرك التّهاني من بركات الدّعاء الذي أرجو أن يسمع الله فيك صالحه، ويجيب أحسنه، لأجللناك عن التّهنئة بمستجدّ الأعمال، ومستحدث الولايات، لقصورها عن استحقاقك، وانحطاطها وإن جلّت عن أيسر واجباتك، وتعجّلها بمأثور كفايتك، وبركات نظرك، ومواقع إنصافك.
فهنأك الله نعمة الفضل التي الولاية أصغر آلاتها، والرّياسة بعض صفاتها، ولا أخلاك من موهبةٍ مجدّدة، ومنحةٍ مؤبّدة.
وله في مثله: سيدي- أيده الله- أرفع قدراً، وأنبه ذكراً، وأعظم نبلاً، وأشهر فضلاً، من أن نهنّئه بولاية وإنّ جلّ خطرها، وعظم قدرها؛ لأنّ الواجب تهنئة الأعمال بفائض عدله، الرّعيّة بمحمود فعله، والأقاليم بآثار رياسته، والولايات بسمات سياسته، فعرّفه الله يمن ما تولاّه، ورعاه في سائر ما استرعاه، ولا أخلاه من التوفيق فيما يعانيه، والتسديد فيما يبرمه ويمضيه.
الأجوبة عن التّهاني بالولايات:
قال في مواد البيان: هذه الكتب إذا وردت، وجب على المجيب أن يستنبط من كل كتاب منها المعنى الذي يجيب به.
قال: والطريقة المستعملة فيها أنّ كتاب المجيب يجب أن يبنى على أن المهنّيء قسيمٌ في النّعمة المتجدّدة، وشريكٌ في المنزلة المستحدثة، وأن الحظّ الأوفر فيما ناله المهنّى للمهنّي وببركة دعائه، وتوقعه لما يرد من حاجاته وتبعاته لينفّذها، نازلاً على أخلص مخالصته، وعاملاً بشروط موّدته، ونحو هذا مما يضارعه.
فإن كان المجيب رئيساً أو مرؤوساً، وجب أن يرتّب الخطاب على ما تقتضيه رتبة كلّ واحد منهما.
وهذا مثالٌ من ذلك: زهر الربيع: وردت المشرّفة الكريمة، أتمّ الله على مرسلها نعمته، وأعلى قدره ومنزلته، وجعل جناح العدى مخفوضاً، وعيشه في دعةٍ وخفض، وقدره للتميز مرفوعاّ، وعدوّه للتقصير في انحطاط وخفض، فتلقّاها باليمين، وظنّها الريح الجنوب لما تحمّلته من رقّة الحنين، وعلم ما أبداه فيها من تفضّلاته، واعترف بالتقصير عن مجاراته ومجازاته، فشنّف سمعه بألفاظٍ كأنّهنّ اللّؤلؤ والمرجان، وبيّنت البون الذي بينه وبين غيره تلك الفصاحة والبيان، وقابل أياديه بشكر لسانه، وجازاه بحسن الدّعاء عن إحسانه، ولا يقوم بشكر فضله اللسان ولا الجثمان، وهل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان؟ فأمّا ما أشار إليه من الهناء بالمكان الذي تولاّه، وأبداه من المحبّة التي أوجبت عليه أن يتوالاه، فالله تعالى يعينه على ما هو بصدده، ويجعل الحقّ والخير جاريين على لسانه ويده، ويرزقه اتباع محكم كتابه وسنّة رسوله، ويحصّل له من الرّشد غاية سوله ومأموله، فإن هذه الولاية صعبة المراس، وجوادها كثير الشّماس، لكن ببركات المولى يحصل من الله الأرب، ويسهل لأوليائه القصد والإسعاد والطّلب، أدام الله ظلّ المولى وأسعده، وأوضح لديه طريق السعادة ومهّده، ومنحه من الألطاف الخفيّة أفضل ما عوّده، بمنّه وكرمه.
الضرب الثاني: التهنئة بكرامة السلطان وأجوبتها:
وفيه ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: التهنئة بالإنعام والمزيد ولبس الخلع وغير ذلك:
من كلام الأقدمين، وينهي أنه اتّصل بالمملوك ما أهّل مولانا السلطان مولانا له: من المحلّ السّنيّ، والمكان العليّ، الذي لم يزل موقوفاّ عليه، متشوّفاّ إليه، نافراً عن كلّ خاطبٍ سواه، جامحاً على كلّ راكبٍ إلاّ إيّاه، فأقرّ الله عين المملوك بذلك لصدق ظنه، وعلم أنّ ما أصاره الله تعالى إليه من هذه المنزلة المنيفة، والرّتبة الشريفة، مدرجةٌ تفضي إلى مدارج، ومعرجة تنتهي إلى معارج، والله تعالى يزيد معاليه علوّاً، ويضاعف محلّه سموّاً، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
ومنه: وينهي أنه اتّصل بالمملوك نبأ الموهبة المتجدّدة لديه، والنعمة المسبغة عليه، وما اختصّه به مولانا السلطان من الاصطفاء والإيثار، والاجتباء والاختيار، وتقديمه للرّتبة الأثيرة، والإنافة إلى المنزلة الخطيرة، فسرّ المملوك للرّياسة إذ أحلّها الله تعالى في محلّها، وأنزلها على أهلها، ووصلها بكفئها وكافيها، وسلّم قوسها إلى راميها، والله تعالى يجعل هذه الرتبة أوّل مرقاة من مراقي الآمال، ومكين الرّتب التي يفرعها من رتب الجلال، إن شاء الله تعالى.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي:
أدام الله أنصاره، وجعل التّقوى شعاره، وألبسه من المحامد أكرم حلّه، ونوّله من المكارم أحمد خلّة، ولا زالت الخلع تتشرّف إذا أفيضت عليه، والمدائح تستطاب بذكره لا سيّما إذا أنشدت بين يديه.
الخادم ينهي إلى علم المولى أنه اتّصل به خبرٌ أهدى إليه سروراً، ومنحه بهجةً وحبوراً، وهو ما أنعم به المولى السلطان خلّد الله سلطانه، وضاعف إحسانه، من تشريفه بخلعته، وما أسبغه عليه من وارف ظلّه ووافر نعمته، وأبداه من عنايته بالمولى ومحبّته، وقد حصل له من المسرّة ما أجذله، وبسط في مضاعفة سعد المولى أمله، فإنه بلغه أنّ هذه الخلعة كالرّياض في نضارتها، وحسن بهجتها، وأنها كلّما برقت برق لها البصر، وظنّها لحسنها حديقةً وقد حدّق إليها النظر، وقد جمعت ألوان الأزهار، وأربى ناسجها في اللّطف على نسمة الأسحار، وأسكنت حبّها حبّات القلوب التي في الصّدور، وسمت عن المدح برائق المنظوم وفائق المنثور، وأن ابن سليمان لو رآها، لاعترف بأنّ في لبسها لكلّ فتىً شرفاً لا ريب فيه، ونسب البيت المنسوب إليه إلى أعاديه، وأنّه لو نظر نضرة نضارها لما جعل لها في الحسن نظيراً، ولو ألقاها على وجهه لارتدّ لوقته بصيراّ؛ فلذلك أصدر هذه الخدمة مهنّية، ومعربةٍ عما حصل له من الفرح ومنبّية، ولجيد مدحه العاطل من مثل هذه الألفاظ محلّية، نوّله الله في كلّ يوم مسرّةً وبشرى، وأجرى له على الألسن حمداً وشكراً، وجعله لكلّ خيرٍ أهلاً، وشكر له تفضّلاً شاملاً وفضلاً، ومتّعه من العافية بلباسٍ لا يبلى، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثاني: التهنئة برضى السلطان بعد غضبه:
فمن ذلك: وتنهي أنه اتصل بي ما جدّده الله تعالى لمولاي- أطال الله بقاءه- من حسن عاطفة مولانا أمير المؤمنين- خلّد الله ملكه- وانعطافه عليه بعد انصرافه، وإعادته إلى رتبته التي نشزت عنه دلالاً لا ملالاً، وهجرته هجر المستصلح المستعتب، لا هجر القالي المتجنّب، وكيف تقلاه، وهي لا تجد لها كفؤاً سواه، ولتوقّع المملوك بما وقع من هذه الحال، وعلمه أنّ عودها إليه كعودة المودع إلى مودعه، لا عودة المنتجع إلى مربعه، وأنّ الذي وقع من الانحراف إصلاح باديه تهذيبٌ وتقويم، وخافيه توقيرٌ وتعظيم، لما في عتاب أمير المؤمنين من شرف الرّتبة، والدّلالة على استقرار الأثرة والقربة، وحلوله محلّ الصّقال، من أبيض النّصال، والثّقاف من العسّال، ولا سيّما ورياسته محفوظة، وسيادته ملحوظة، وهيبته في النّفوس ماثلة، وجلالته في القلوب حاصلة، ولم يرى المملوك أجلّ موهبةً من الله سبحانه من شكر يسترهن هذه النعمة ويخلّدها، وحمدٍ يرتبطها ويقيّدها، ورغبت إلى الله سبحانه أن يجعل هذا العزّ الحادث لابثاً لا يتحوّل، والسعد الطارف ماكثاً لا يتنقّل، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك:
وينهي أنّ من عادة الزمان أن يكف سحابه ثم يكفّ، ويرفّ نباته ثم يجفّ، ويدرّ حلبه ثم ينقطع، ويقبل خيره ثم يرتجع، إلا أنّه إذا سلب النعمة ممن يستوجب إمرارها عليه، وانتزع الموهبة ممن يستحقّ استمرارها لديه، كان كالغالط الذي يراجع نفسه فيندم على ما فرط، ولا يلبث أن يستدرك الغلط، معقباً نبوته بإنابته، متعقّباً هفوته باستقالته، ماحياً إساءته برأب ما ثلم، وأسو ما كلم، وإصلاح ما أفسد، وتأليف ما شرّد. فلا جرم أنّ النفوس بإقباله على من هذه صفته واثقة، والآمال لانصرافه إلى من هذه صورته متحقّقة، وإذا سلبها هرول في إيداعها لديه، وأخذ في إفاضتها عليه. وما زال المملوك- مذ عامل الزمان مولانا بسوء أدبه، ونأى عنه بجانبه، وقبض بنانه، وغيّر عليه سلطانه- عارفاً أنّ هذه الفعلة فلتةٌ من فلتاته التي يتوقّى شرّها، ولا يرجع إلى مثلها، وأنّ الاستبصار، يقوده إلى الاعتذار، والاضطرار، يحدوه على ردّ ما انتزعه بالإجبار؛ لأنه لا يجد من يحلّ محلّ مولانا في ارتباطه بإيناسه، وتعهّده بسقي أغراسه، وقيامه بشكره، وتزكيته ببرّه متوقّعاً لأن تتيقّظ عينه، وينكشف رينه، فيرى ما صنعت يداه، ويبادر لاستقالة ما جناه، حتّى طرق البشير بما سهّله الله تعالى من انحسار الكربة، وعود مولانا إلى شرف الرّتبة، وصلاح ما فسد، وعود السلطان أعزّ الله نصره إلى ما عهد، وركوبه إلى حضرته، وانقلابه عنه رافلاً في تشريفه ومكرمته، فكان معتقد المملوك فيه هلالاً في السّرار فأهلّ، وجنيناً في الحشا فاستهلّ، فاستولى على المملوك من السّرور ما عمّ جوارحه، وعمر جوانحه، وأطار بجناح المرح، وألبس حلّة الفرح، إذ ما جدّده الله تعالى له من السعادة يحلّ به في العموم، محلّ الغيث السّجوم؛ لأنّه حرس الله عزّه لا يستأثر بعوارف الله عنده، ولا يكزّ على عطاياه يده، بل يمنح مما منح، ويولي مما تولّى، ولايضنّ بمالٍ ولاجاهٍ، ولا يقعد عمن أملّه ورجاه، والله تعالى يجعل ذلك مما أقرّ به العيون، وصدّق فيه الظّنون، لا تخلقه الأيام ولا تبليه، ولا تزويه الحوادث ولا تؤثر فيه، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث: التهنئة بالخلاص من الاعتقال:
الشيخ شهاب الدين الحلبي:
جدّد الله سعده، وضاعف جدّه، وأنجح قصده، وأعذب منهله وورده، ولا انفكّت الأيام زاهيةً ببقائه، والأنفس مسرورةً بارتقائه إلى رتب عليائه.
أصدرها تفصح عن شوقٍ يعجز عن سوقه الجنان، ويقصر عن طوله اللّسان، وسرورٍ تزايد حتّى أبكاه، ولاعج بمشاهدة طلعته السعيدة أغراه، وتهنّيه بما جدّد الله له بعد الاعتقال من الفرج والفرح، ومنّ به بعد ضيق الخواطر من الابتهاج والمرح، فهذه المسرّة ماءٌ زلالٌ برد بها الأوام، وإنعامٌ عامّ، حمد الله عليها الخاصّ والعامّ، فالحمد لله الذي عوّضه عن مأتم الحزن بما تمّ من السرورّ، وعن الهمّ المانع عن الورود والصّدور بانشراح الصّدور، فإنّ القلوب شعفها حبّه وشغفها، وضاعف لتعويقه أساها وأسفها، بحيث اعترى المناطق قلقٌ وعلاها اصفرار، وعطّلت يد كل غانية من الحليّ فما ضمّها قلبٌ ولا سوار، ولبس الخطباء حزناً وألبسته المحابر، وكادت لغيبته وفقد اسمه تندبه الجوامع وتبكيه المنابر، خلّد الله سعادته، وسهّل له من خيري الدنيا والآخرة قصده وإرادته، بمنّه وكرمه.
الأجوبة عن التهنئة بكرامة السلطان ورضاه بعد غضبه:
قال في موادّ البيان: يجب أن تكون أجوبة هذه الرّقاع مودعةً من الثناء على المهنّي- لمحافظته على رسوم الموّدة وقيامه بشروط الخلّة- ما تقتضيه رتبته ورتبة المجيب، وأنه مشاركٌ في مجدّد النعمة، مفوضّ في حديث المسرّة، والتيّمن بالدعاء، ونحو هذا مما يحسن موقعه عند المبتديء بالهناء، ويضعه بحيث وضع نفسه من الاختصاص بمن كاتبه.
وهذا مثالٌ من ذلك.
زهر الربيع جواب هناء بخلعة:
أدام الله علاءه، وشكر آلاءه، وضاعف ثناءه، وحمد مننه التي أثقلت لكلّ معتفٍ ظهراً وخفّفت همّاً، وأنالت لكلّ وليٍّ نصيباّ من عوارفها وقسماً.
المملوك ينهي إلى العلم الكريم ورود المكتبة التي كستها يده حلّة جمال، وألبستها ثوب إفضال، وأعدّتها بكرمها، وحسّنت وجهها بلسان قلمها، فأمطرته سحاب جودٍ أربى على السّحاب، وأوقفته منها على ألفاظٍ كأمثال اللّؤلؤ المكنون، فاجتنى ثمار الفضائل من أغصانها، واجتلى عروس محاسنها وإحسانها، وفهم ما أشار إليه من التهنئة بالخلعة التي أنعم المولى بها على خادمه وتصدّق، وحقّق الأمل في مكارمه وصدّق، وإنعامه خلّد الله دولته، وأعزّ نصرته، قد كثر حتّى أخجله، وميّزه على كثيرٍ من مماليك بيته العالي وفضّله، وأناله من المنزلة ما سما بها على أمثاله، ورقي بها بعد رقّة حاله، فالله يخلّد سلطانه، ويثبّت بالسعادة أركانه، وهذا بسعادة مولانا ومساعدته، ومعاونته ومعاضدته، فإنه كان السبب في الاتصال ببابه أوّلاً وآخراً، وممّن أغاثه بذلك وأعانه عليه باطناً وظاهراً. [بسيط]
وكلّ خيرٍ توخّاني الزّمان به ** فأنت باعثه لي أو مسببه

الضرب الثالث من التهاني: التهنئة بالعود من الحجّ:
وهذه نسخٌ من ذلك ينسج على منوالها.
فمن ذلك: وينهي أنه طرق المملوك البشير بعود مولانا- أطال الله بقاءه- من مقام الطائفين، إلى مقام المعتفين، وأوبته من كعبة الإحرام، إلى كعبة الإكرام، وتنقّله من موقف الحجّاج، إلى موقف المحتاج، وحلوله بمنزله الذي هو قبلة ذوي الآمال، ومحطّ الرّحال، بالسّعي المشكور، والحجّ المبرور، والنّسك المقبول، والأجر المكتوب، فحمدت الله تعالى على موهبته، وسألته زيادة من مكرمته، واستنجحت هذه المكاتبة أمام ما أرومه من مشاهدته، وأرجوه من الاستسعاد بملاحظته، وبرد أوار الشوق بمحاضرته، ومجدّداً عهود التيّمن بمباسمته، فإن اقتضى رأيه العالي أن يعرّف المملوك جملةً من خبره في بدئه وعوده، ومنقلبه ومتوجّهه، وما تفضّل الله تعالى به من أمان سبيله، وهداية دليله، وتخفيف وعثاء سفره، وتسهيل وطره، لأسكن إلى ذلك إلى حين التمثّل بنظره، فله الفضل في ذلك، والله تعالى يبلّغه سوله، ويوصّله مراده ومأموله، بمنّه وكرمه.
ومن ذلك: وينهي أنّ مولانا لا يزال حاجّاً إلى كعبة الحرم، أو كعبة الكرم، وطائفاً بشعائر الوفود، أو بشعائر الجود، وواقفاً بموقف الاستفتاح، أو موقف السّماح، وناحر البدن بمنى، أو ناثر البدر للمنى، فلا يرتفع في حالٍ من الأحوال برّه، ولا ينقطع عن الله تعالى ذكره، ومن كان بهذه المثابة، في إحراز الأجر والإنابة، فهو حقيقٌ أن تعمر بالتهنئة أوقاته وأزمانه، كما عمرها سعيه وإحسانه، وقد عرف المملوك انكفاءه- أدام الله علوّه- عن مقام الطائفين والعاكفين، إلى مقام القاصدين والمعتفين، وعوده إلى منزله المعمور، بعد قضائه فريضة السّعي المشكور، فعدلت في مخاطبته عن الهناء إلى الدعاء بأن يتقبّل الله تعالى نسكه وثقّل ميزانه، ويطلق في حلبة الخيرات عنانه، ويحييه لأجر يحرزه، وثواب يكنزه، والله تعالى يجيب ذلك فيه، ويريه في نفسه وأحبّته ما يرتضيه.
ومن ذلك: وتنهي أنّه قد طرقني البشير بانكفاء مولانا إلى مقرّ علائه، وانفصاله عن ملاذ النّسّاك والعبّاد، إلى معاذ الزّوّار والقصّاد، فعرفت أنّ ذلك النسيم العليل من تلقائه، وذلك النّور الصادع من آلائه، وذلك الافترار من أسرّته ومخايله، وتلك العذوبة من شيمه وشمائله، فكاد المملوك يطير- لو طار قلبي غير ذي مطار- فرحا، وأخرق الأرض وأبلغ الجبال لو أمكن ذلك مرحا، وانفتح قلبي حتّى كادت مهجته تفيض سروراً، وطاش حلمي حتّى تفرّق مجموعه بهجةً وحبورا، والله تعالى يجعل نعمه موصولة الحبل، مجموعة الشّمل، بمنّه وكرمه.
أبو الفرج الببّغاء: جعل الله سعيك مشكوراً، وحجّك مبروراً، ونسكك مقبولاً، وأجرك مكتوباً، وأجزل من المثوبة جزاءك، ومن عاجل الأجر وآجله عطاءك، وقرن بالطاعات عزماتك، وبالسعي إلى الخير نهضاتك، ووّفقك من صالح الأعمال، وزكيّ الأفعال، لما يجمع كلّ خير الدارين.
ولمّا طرقتني البشارة بقدومك، بدأت بإهداء الدعاء، وتجديد الشكر لله تعالى والثّناء، واستنبت في ذلك المكاتبة، أمام ما أنا عازم عليه، من المشافهة والمخاطبة.
ولن أتأخّر عن حظّي من المسير إليك للتيمّن بالنظر إلى غرّتك، ومداواة ما عانيته من ألم الشوق بمشاهدتك.
الضرب الرابع من التهاني: التهنئة بالقدوم من السفر:
من كلام المتقدمين:
عليّ بن خلف:
وينهي أنّه اتّصل بالمملوك خبر توجّهه إلى الناحية الفلانية، فعرف المملوك أنه قصدها ليخصّ قاطنيها، بنصيبٍ من مواهبه، ويفيض على ساكنيها، سجالاً من رغائبه، ويسوّي بينهم وبين من راشه بحبائه، وجبره بنوافله وآلائه، فسألت الله تعالى أن يطيل عمر المكارم بإطالة بقائه، ويجمع شمل السّؤدد بدوام علائه، ثم اتّصل بي عوده إلى مقرّه، خفيف الحقائب من وفره، ثقيلها من ثنائه وشكره، فحمد المملوك الله تعالى على إسفار سفره عن بلوغ الأوطار، وانحسار أمنيّته عن أذيال المسارّ، وما خصّه به من السّير الشّحيح، والسّعي النّجيح، والسّلامة المفرّقة على الوجهة والمنقلب، والمفتتح والمعتقب، ولمّا عرض للمملوك ما قطعه عن مشافهته بالدعاء، رفع يده إلى الله تعالى ضارعاً لديه في أن يتولاّه في هذا المقدم الميمون، بالسعد المضمون، وإنالة الأمانيّ المقرّة للعيون، وأن يمنحه في الحلّ والتّرحال، والقطن والانتقال، توفيقاّ يقارن ويصاحب، ويساير ويواكب، وأن يجعل ما خوّله من نعمه راهناً خالداً، وما أولاه من مواهبه بادئاً عائداً، إن شاء الله تعالى.
وله أيضاّ: وينهي أنه طلع عليه البشير، طلوع القمر المنير، مؤذناً بمقدم حضرته، ومعلماً بظهور طلعته، وحلوله في معانه الذي هو معان الإقبال، وعون الرجال، وقرارة الأقيال، ومحطّ الرّحال، وقبلة الجود، ومعرّس الوفود، فسألت الله تعالى أن يبقيه جمالاً للأيّام، وثمالاً للأنام، وعماداً للقصّاد، ومراداً للرّوّاد، والله تعالى لا يخليه في تصرّفاته، وجميع حركاته وسكناته، من سعي سعيد، وعيشٍ رغيد، بمنّه وكرمه.
أبو الفرج الببّغاء: من كانت غيبة المكارم مقرونةً بغيبته، وأوبة النّعم موصولةً بأوبته، سافرت الأنفس حيث كانت إليه، وقدمت الآمال عند قدومه عليه، وما زالت الأنفس إلى الأمنيّة بقربه متطلّعة، ولورود السّرور بوروده متوقّعة، إلى أن أنست بعد الوحشة بلقائه، وتنسّمت أرج منّه ونعمائه، فوصل الله قدومه من الكرامة، بأضعاف ما قرن به مسيره من السّلامة، محروساً من طوارق الغير، مبلّغاً أبعد العمر.
وله في مثله: من كانت مادّة سروره، بمغيبه وحضوره، لم يجد مع بعدك مؤنساً يسكن إليه، ولا عوضاً يعوّل في السّلوة عليه، وما زلت أيام غيبتك- لا أوحش الله منك- بالوحدة مستأنساً، وبالشّوق إليك مجالساً، ألاقيك بالفكر، وأشاهدك باتّصال الذّكر، إلى أن منّ الله من أوبتك بما عظمت به النعمة، وجلّت لديّ معه الموهبة، فوصل الله بالسلامة نهضاتك، وبالسعادة حركاتك، وبالتوفيق آراءك وعزماتك، وحرسني ببقائك وبقاء النعمة عندك، وهنأني النعمة الجليلة بقربك.
وله في مثله: من كنت نهاية أمنيّته، وقطب مسرّته، كان من نفسه مستوحشاً مع بعدك، وبدهره مستأنساً مع قربك، وما زلت معك بالنّيّة مسافراً، وبالشّوق سائراً، وبالفكر ملاقياً، وبالأمانيّ مناجياً، إلى أن جمع الله شمل سروري بأوبتك، وسكّن نافر قلقي بعودتك، على الحال السارّة من كمال السّلامة، ووفور الكلفة، فأسعدك الله بمقدمك سعادةً تكون بها من الزمان محروساّ، وللإقبال مقابلاً، وبالأمانيّ ظافراً، ولا أوحش الله منك أوطان الفضل، وعضّد إخوانك ببقائك وبقاء النعمة عندك.
وله في مثله: لو كان القلب يجد عنك منصرفاً، أو يرى منك في اكتساب المسرّة خلفاً، لاستراح إليه من ألم بعدك، واستنجده على مرار فراقك، لكنّك- أيّدك الله- جملة مسرّته، ونهاية أمنيّته، فليس تتوجّه أمانيّه إلاّ إليك، ولا تقف آماله إلاّ عليك، فالحمد لله الذي أقرّ بفيئتك أعين إخوانك وأودّائك، وافاك الله من السّعادة في أوبتك أضعاف ما اكتنفك من الكفاية في ظعنك.
ابن أبي الخصال: سرّ الله مولاي ورئيسي، وربّ تشريفي وأنيسي، بلقاء الأحباب، واتّصال الأسباب، وأوبة الغيّاب، ولا زالت الأيام تتصنّع لإقباله، وتقبّله أوجه العزّ في اقتباله، وتوفيه على رغم الحاسد حقّ جلاله.
البشرى- أدام الله اعتزازه- بمقدم الوزير فلان قد أوضعت ركابها، واتّصل بالنفوس أعلاقها وأسبابها، فهنيئاً معشر الأولياء بسبوغ هذه النعمة الجليلة، والمنحة الجزيلة، ولا أستوفي شكر ما به أتى معظّم قدره، وملتزم برّه، من ثناءٍ كعرف الطيب يهدى، ومذهب في الإنهاض لا يقضى واجبه ولا يؤدّى، ولا زالت حياة مولاي تفدّى، وأفعال برّه تتعدّى، وقد لثمت مواقع أنامله ودّاً، ووردت من محاسن بيانه منهلاً عذباً وورداً فأمتعني الله بحياته العزيزة الأيّام، الطيّبة الإلمام، الموصلة العهد والذّمام، وأقرأ على سيدي من سلامي ما يلثم يده، ويقضي حقّ اليراع الذي أنشأ به البر وولّده، والسلام المعاد عليه وعلى جملته ورحمة الله وبركاته.
الشيخ جمال الدين بن نباتة عن نائب الشام إلى القاضي علاء الدين بن فضل الله كاتب السرّ الشريف، بالأبواب الشريفة بالديار المصرية، عند عوده من الكرك إلى الديار المصرية، في سنة ثلاثٍ وأربعين وسبعمائة، مهنّئاً له بالعودة إلى منزله بالديار المصرية، واستقراره وعوده إلى كتابة السرّ الشريف بالأبواب الشريفة السلطانية، وهي: تقبّل الباسطة الشريفة- إلى آخر الألقاب- لا زالت خناصر الحمد على فضل بنانها معقودة، ومآثر البأس لها ومنها شاهدةً ومشهودة، وبواتر السّيوف مسيّرة القصد إلى مناظرة أقلامها المقصودة، تقبيلاً يودّ لو شافه بشفاهه مورد الجود من الأنامل، وكاثر بثغره عند المثول للتقبيل ثغور الأماثل، فكان يشافه بشوقه مورداً كثير الزًحام، وكان يكاثر بعقد قبله على يد الفضل عقوداً جزيلة الانتظام، وكان يحاكم جور الضّيم إلى من أبى الله لجار مشاهدته أن يضام، وينهي ما وصل إليه وإلى الأولياء من السّرور، وما رفع بينهم وبين الابتهاج من الشّرور، وما طولع في أخبار المسرّة من السّطور، بوصول مولانا ونم معه إلى مساكن العزّ ساكنين، ودخولهم كدخول يوسف عليه السلام ومن معه إلى مصر آمنين، واستقراره في أشرف مكانٍ ومكانة، واستنصار مصر بأقلامه على العادة، فإنّ هذه سهامٌ وهذه كنانة، وإسفار غمام السّفرة عن كوكب علاً طالما حرس بيمينه أفق الملك وهداه وزانه، وما كانت إلا غيبةً أحمد الله عقباها، وغيابة بعدٍ من الله عزّ وجلّ وجلاها، وفترةً ثنى فترتها فتنفّس خناق المنصب المشتاق لوجهه الكريم، وهجرةً صرف الله هجيرها فسقى طرس الإنشاء الذي ابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم؛ وما محاسن مولانا إلاّ زينةٌ من زين الدنيا فعليها يتشاكس المتشاكسون، وما مزاج كلماته إلاّ من تسنيم، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} فالحمد لله على أن أقرّ به العيون بمعاودة ظلّه الوريف، وعلى أن شفى الصّدور بقربه وأوّلها وأولاها صدر السرّ الشريف، وعلى أن أجزل الهناء وقد شمل ظلّه، وقد كمل بابن الفضل فضله، وقد بهر سناؤه وسناه، وقد تسعّب القريب والبعيد فإن أجدى على مصر مورده فقد جادت على الشام سماه، وقد أخذ المملوك حظّه من هذه البشرى، ووالى السّجود لله شكراً، وجهّز خدمته هذه نائبةً عنه في تقبيل بنان إن سمّاه مولى الكرم بحراً، فقد سمّاه مربّي الملك برّاً، لا زالت الممالك متحفة بيمن مولانا ظاعناً ومقيماً، متّصفةً بحمده وحمد سلفه الكريم حديثاً وقديماً، تاليةً على مهمّات الملك بصحبة بيته الشريف {وكان فضل الله عليك عظيماً}.
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في تهنئة بقدوم من سفر: أدام الله ظلّه، ورفع محلّه، وشكر إنعامه وفضله، وأعزّ أنصاره، وضاعف اقتداره، ولا زال مؤيّداً في حركاته، مسدّداً في سائر فعلاته، مصحوباً بالسلامة في المهامه والقفار، مخصوصاً من الله تعالى بالأعوان والأنصار.
المملوك ينهي بعد تقبيل الأرض، والقيام بما يجب من سننه والفرض، علمه بحلول ركابه العالي بمغناه، واستقرار خاطره الشريف في محلّه ومثواه، وجمع الشّمل بالأهل بعد طول الغيبة، وبعد القفول والأوبة، فتضاعف لذلك فرحه وسروره، وزال عن قلبه قليل الهمّ وكثيره، فالله يمنح المولى أطيب المنازل، وأسرّ الرّواحل، ويجعل تجارة مجده رابحة، وأوامر دوام عزّه لائحة، حتّى تنشد نفسه الكريمة قول أبي الطيّب: [كامل]
أنا من جميع الناس أطيب منزلاً ** وأسرّ راحلةً وأربح متجراً

لا زالت الأعين قريرةً برؤيته، وقلوب الإخوان قارّةً بمشاهدته، والأوجه وسيمة، والنّعم الظاعنة مقيمة، إن شاء الله تعالى.
أجوبة التهنئة بالقدوم من السفر:
قال في موادّ البيان: أجوبة هذه الرّقاع ينبغي أن تبنى على الاعتراف للمهنّيء بحقّ تعهّده، وكرم تفقّده، وإطلاعه على الحال في السّفر، وما أفضت إليه من السلامة، والتأسّف على ما تقضّى من الأيام في مباعدته، والتخلّف عن مباسمته، وأنه لم يزل يدّرع الإدلاج، ويقطع الفجاج، رغبةً في القدوم إليه، والوفادة عليه، وبلّ الغلّة برؤيته، وترويح النفس بمحاضرته، وما يليق بهذا النّمط من الكلام.
الضرب الخامس من التهاني: التهنئة بالشهور والمواسم والأعياد:
وهي على ثمانية أصناف:
الصنف الأوّل التهنئة بأوّل العام وغرّة السّنة.
من كلام المتقدمين:
تهنئة من ذلك: من إنشاء أبي مسلم محمد بن بحر: أسعد الله سيّدي بعامه، والفضل منه وما حوى من الأعياد والأيّام الخطيرة وسائر شهوره وأيّامه، ومتصرّف أحواله، وبما يأتي ويكرّ عليه من زمانه، سعادةً تسوق إليه حظوظ الدّين والدنيا كاملة، وتجمع له فوائد الأمدين تامّة وافية، وترتهن إليه النّعم فلا تزال لديه زائدةً نأمية، وبلّغه بها الأمل، ومدّ له في البقاء إلى أنفس المهل.
ولأبي الحسين بن سعد: عظّم الله على مولاي بركة الشهر والسنة المتجدّدين، ووهب له فيهما وفيما يتلوهما من أيام عمره، وأزمان دهره، سعادةً تجمع له أشتات الحظوظ، وتصل لديه موادّ المزيد، وتيسّر له بلوغ الأمل في كلّ ما يطالع وينازع، والأمن من كلّ ما يراقب ويحاذر.
وله في مثله: عظّم الله على سيّدي بركة الشهر والسنة، وأعاشه لأمثالهما مدّة اختلاف الجديدين، وتجاور الفرقدين، ممتّعاً بالنّعم السابغة، والمواهب المترادفة، والسّعادة والغبطة، والعزّ والمسرّة.
وله في معناه: جدّد الله لسيّدي في الأيّام الحاضرة والمستقبلة، والأحوال الراهنة والمتنقّلة، حظوظاّ من السّعادات، وأقساماً من الخيرات، لا يحصى عددها، ولا ينقضي مددها.
وله في مثله: عظّم الله على مولاي بركة الشهر والسنة المتجدّدين عليه، وعرّفه فيهما وفي الأيّام بعدهما من حادث صنعه، ولطيف كفايته، ما تدوم فيه السعادة، وتعظم به المنّة، وتحسن فيه العاقبة.
وله في مثله: عظّم الله على مولاي بركة هذا الشهر، الماضي من أيّامه وباقيها، وهذه السنة، وجعلها أيمن سنةٍ حالت عليه وأسعدها.
ومنه: وينهي أنّ المملوك يهنّيء غرّة الأيّام، بغرّة الأنام، وصدر العام، بصدر الكرام، بل يهنّيء الزمن كلّه نعم وأهله بالحضرة التي واست المعالي.
الصنف الثاني: التهنئة بشهر رمضان.
من كلام المتقدمين:
لأبي الحسين بن سعد: جمع الله لمولاي في هذا الشهر الشريف شروط آماله وأحكام أماليه، في حاضر أمره وعاقبته، وعاجل دنياه وآخرته، وأبقاه لأمثاله بقاءً لا يتناهى أمده، في ظلّ عيش يرضاه ويحمده.
وله في مثله: عرّف الله سيدي بركة هذا الشهر الشريف وأعاشه لأمثاله، ما كرّ الجديدان، واختلف العصران، ممتّعاً بسوابغ النّعم، محروساً من حوادث الغير، وموفّقاً في شهره، وأزمان دهره، لأزكى الأعمال، وأرضى الأحوال، ومقبولاً منه ما يؤدّيه من فرضه، ويتنفّل به قربة إلى ربّه.
وله في مثله: عرّفه الله بركة إهلاله، أبقاه طويلاً لأمثاله، موفّقاً فيه من عمل الخير، ومراعاة الحقّ، وتأدية الفرض، والتنفّل بالبرّ، لما يرضيه، ويستحق جزيل المثوبة عليه، ممتّعاً بعده بسنيّ المواهب، وجسيم الفوائد، مع اتصال مدّة العمر، واجتماع أمنيّات الأمل.
وله في مثله: عرّف الله مولانا بركة هذا الشهر الشريف وأيّامه، وأعانك على صيامه وقيامه، ووصل لك ما يزيد من فضله وإنعامه، وتابع لك المزيد من منائحه وأنعامه، وختم لك بالسعادة العظمى بعد الانتقال في الجاه والرياسة إلى أبعد المدى في العزّ والثّروة إلى أقصى المنى.
أبو الفرج الببغاء:
جعل الله ما أظلّه من هذا الصيام مقروناً بأفضل قبول، مؤذناً بإدراك البغية ونجح المأمول، ووفّقه فيه وفي سائر أيّامه، ومستأنف شهوره وأعوامه، لأشرف الأعمال وأفضلها، وأزكى الأفعال وأكملها، ولا أخلاه من برٍّ مرفوع، ودعاءٍ مسموع، وسعيٍ مشكور، وأمرٍ مبرور، إلى أن يقطع في أجمل غبطةٍ وأتمّ مسرّةٍ أمثاله.
وله في مثله: عرّفك الله بركة هذا الشهر المعظّم قدره، المشرّف ذكره، ووفّقك فيه لصالح الأعمال، وزكيّ الأفعال، وقابل بالقبول صيامك، وبتعظيم المثوبة تهجّدك وقيامك، ولا أخلاك في سائر ما يتبعه من الشّهور، ويليه من الأزمنة والدّهور، من أجرٍ تذخره، وأثرٍ تشكره.
قلت: ومما كتبت به تهنئةً بالصوم للمقرّ الأشرف الناصريّ محمد بن البارزيّ كاتب السرّ الشريف المؤيّديّ بالممالك الإسلامية، في سنة ستّ عشرة وثمانمائة نظماً: [طويل]
أيا كاتب السّرّ الشّريف ومن به ** تميس نواحي مصر تيهاً مع الشّام

ومن جلت الجلّى كتائب كتبه ** ومن ناب عن وقع السّيوف بأقلام

تهنّ بهذا الصّوم والعيد بعده ** ومن بعده بالعيد والعام فالعام

وترقى رقيّ الشّمس في أوج سعدها ** وتبقى بقاء الدّهر في فيض إنعام

الصنف الثالث: ما يصلح تهنئةً لكلّ شهرٍ من سائر الشّهور.
لأبي الحسين بن سعد: عظّم الله بركة إهلاله، وأعاشه لأمثاله، أطول المدّة، ممتّعاً بأدوم النعمة، ومشفّعاً بأفضل الأمل والأمنيّة.
وله: أسعد الله سيّدي بانصرامه وإهلال ما بعده، وأبقاه ما بقي الزمان ممتّعاً بالعزّ والنّعمة، محروساً من الآفات المخوفة، والحوادث المحذورة، وله: عظّم الله على سيّدي بركة الماضي والمستقبل من الأيّام والشّهور والأعوام والدّهور، ووصل لي السعادة باتّصالها، وجدّد لي النّعمة بتجدّدها.
وله: عظّم الله بركة انسلاخه، وإهلال ما يتلوه، مجدّداً لك بتجدّده فوائد الخيرات، وأقسام البركات، تدوم فيها المدّة، وتطول بها النّعمة.
وله: أسعدك الله بإهلاله، وأعاشك أبداً لأمثاله، ممتّعاً بدوام العزّ والنّعمة، واجتماع أسباب الرّخاء وشروط المحبة، إنّه جوادٌ كريم.
وله: عظّم الله على مولاي بركات هذا الشهر وما يتلوه، وبلّغه ما يحأوله وينحوه، في مستأنف الشّهور، ومؤئنف الدّهور، مضاعفاً له العزّ والتأييد، وموصولاً له أصل النّعمة بحسن المزيد.
وله: عظّم الله على مولاي بركة الشّهر، وأدام له سلامة الدّهر، موفوراً من العزّ والسلطان، غير مذعور بنوائب الزّمان.
وله: عظّم الله على سيدي بركة الأيّام والشّهور، والسّنين والأحقاب، وجمع له المواهب كاملة، والفوائد فاضلة، ديناً ودنيا، وحاضرةً وعقبى.
وله: عظّم الله عليك بركته، وعرّفك يمنه وسعادته، وجدّد لك الخيرات، تجديد الأوقات والسّاعات، حتّى تحوز منها أسنى الحظوظ وتبلغ ما تتمنّاه أقصى الغايات.
الصنف الرابع: التهنئة بعيد الفطر.
من كلام المتقدمين:
لأبي الحسين بن سعد: عظّم الله على سيدي بركة هذا العيد، وأعاشه لأمثاله، من الأعياد المشهودة، والأيّام الجديدة في أهنأ عيشٍ وأرغده، وأطول مدىً وأبعده.
أبو الفرج الببغاء: أسعدك الله بهذا الفطر الجديد، والعيد السّعيد، ووصل أيّامك بعده بأكمل السّعادات، وأجمل البركات، وجعل ما أسلفته من الدّعاء مقبولاً مسموعاً، ومن التهجّد زاكياً مرفوعاً، ولا أخلاك من نعمةٍ يحرس الشكر مدّتها، ولا يخلق الدّهر جدّتها.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: المولى أدام الله نعمه، وحرس شيمه، هو سيّد الأفاضل، ورئيس الأماثل، وحسنة الزّمان، وليث الأقران، وهو في الأنام، كالأعياد في الأيّام، فإنّ الأنام ليلٌ والمولى مصباح بل الصّباح، وسائر الأيّام أجسادٌ وسائر الأعياد هي الأرواح، فإذا كان المولى قد زهي على أبناء جنسه، ويوم العيد على غده وأمسه، فقد صار كلٌّ منكما إلى صاحبه يتقرّب، ويلزم ويلزب، وهو أحقّ الناس بأن يبهجه مقدمه، وأن يهنّى بيومه الذي هو مجمع السّرور وموسمه.
والخادم يهنّيء المولى بهذا العيد، واليوم السّعيد، فإنه وافى في أوان الرّبيع وزمانه، ليباهي بغصن قدّه أغصان بانه، ويستنشق في صدره وورده، رائحة ريحانه وورده، ويختال في رياضه وحدائقه، ويلاحظ بهجة أزهاره وشقائقه، والعيد والرّبيع ضيفان ومكارم المولى جديرةٌ بإكرام الضيف، والتمتّع بالملاذّ فيهما قبل رحيلهما وقدوم حرّ الصّيف، وأن يحسّن وجه عيده، بحلوله في مغناه ووجوده، بما يوليه لعفاته من إنعامه وجوده، لا زالت الأعياد تهنّى ببقائه، وألسنة الأيّام تشكر سوابغ نعمائه، وتحمد جزيل عطائه، وتنطق بولائه وثنائه، أبداً، إن شاء الله تعالى.
قلت: ومما كتبت به مهنّئاً للمقرّ الأشرف الناصريّ محمد بن البارزي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية في الدولة المؤيّديّة شيخ بعيد الفطر نظماً، بعد أن سألته حاجةً فقضاها، وأسنى لي الجائزة على نثرٍ كتبته له: [طويل]
سألت نظام الملك كاتب سرّه ** إزالة ضنكٍ أرهف الدّهر حدّه

فمنّ بجاهٍ زعزع الأرض وقعه ** وجاد بمالٍ لا يرى الفقر بعده

وبالبارزيّة ازدان وصف مكارمٍ ** فأشبه في فضلٍ أباه وجدّه

فيهناه صومٌ ثمّ عيد مسرّةٍ ** وطالع إقبالٍ يقارن سعده

ورفع دعاءٍ لا يغبّ تتابعاً ** وطيب ثناءٍ خامر المسك ندّه

الصنف الخامس: التهنئة بعيد الأضحى:
من كلام المتقدمين:
أبو الحسين بن سعد: كتابي والنحر؛ نحر الله أعداء مولاي وحسّاد نعمته، وأمتعه بمواهبه عنده، وبارك له في أعياده ومتجدّد أيّامه، بركةً تنتظم السّعادات، وتتضمّن الخيرات، متصلةً غير منقطعة، وراهنةً غير فانية.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: [طويل]
تهنّ فأيّام السّرور أواهل ** وكلّ مخوفٍ عن جنابك راحل

ونجمك من فوق الكواكب طالعٌ ** ونجم امريءٍ يشنا سموّك آفل

ألا أيّها المولى الذي عمّ جوده ** فدتك العوالي والجياد الصّواهل

تمتّع بعيد النّحر وافاك خاضعاً ** يحقّق من دنياك ما أنت آمل

ودم كابت الأعداء وابق مخلّداً ** على المال عالٍ بالرعيّة عادل

لقد راق مدحي في معاليك مثل ما ** صفت منك أوصافٌ ورقّت شمائل

جعله الله أبرك الأعياد وأسعدها، وأيمن الأيّام وأمجدها، وأجمل الأوقات وألذّها وأرغدها، ولا برح مسروراً مستبشراّ، منصوراً على الأعداء مقتدراً، مسعوداّ محموداً، معاناً بملائكة السماء معضوداً، مهنّأً بالسّعود الجديدة، والجدود السّعيدة، والقوّة والناصر، والعمر الطويل الوافر: [طويل]
ولا زالت الأعياد لبسك بعده ** فتخلع مخروقاً وتعطى مجدّدا

فذا اليوم في الأيّام مثلك في الورى ** كما كنت فيهم أوحداً كان أوحدا

وأعاده على المولى صحّةٍ دائمة، وسلامةٍ ملازمة، وأصار عيده مطيعاً لأوامره كسائر العبيد، وعبيده في كلّ يوم من المسّرة ببقائه لها كالعيد، والأيّام به ضاحكة المباسم، والأعوام جميلة المواسم، ومتّعنا بدوام حياته، واستجلاء جميل صفاته، واستحلاء مدائحه بإنشاد عفاته، وأراه نحر أعاديه، بين يديه كأضاحيه، وأصار الحجّ إلى بابه غافراً سيّئات الإفلاس والإعدام، ومبيحاً لبس المخيط من إنعامه العامّ، ألبسه الله من السعادة أجمل حلّة، ومنحه من المكارم أجمل خلّة.
الصنف السادس: التهنئة بعيد الغدير من أعياد الشّيعة.
وكان لهم به اهتمامٌ في الدولة الفاطمية بالديار المصرية، والطريق في التهنئة به على نحو غيره من الأعياد.
ما تهنئةً لكلّ عيد.
أبو الفرج الببغاء: لولا العادة المشهورة، والسّنّة المأثورة، بالإضافة في الدّعاء، والمشافهة بالتهنئة والثناء، في مثل هذا اليوم الشريف قدره، الرفيع ذكره، لكان أيّده الله دون رؤساء الدهر، وملوك العصر يجلّ عن التهنئة؛ إذ كانت سائر أيّامه بما يودعها من أفعال الخير معظّمة، وبما يبثّها من المحاسن مكرّمة، فبلّغه الله أمثاله محروساً في نفسه ونعمته، محفوظاً في سلطانه ودولته، موفياً على أبعد أمانيه، مدركاً غايتها فيما يؤمّله ويرتجيه.
وله في مثله: عرّفك الله يمن هذا العيد وبركته، وضاعف لك لإقباله وسعادته، وأحياك لأمثاله في أسبغ النّعم وأكملها، وأفسح المدد وأطولها، وأشرف الرّتب وأرفعها، أعزّ المنازل وأيفعها، وحرس منحتك من المحذور، ووقى نعمتك من عثرات الدّهور.
الصنف السابع: التهنئة بالنّيروز.
وهو من أجلّ أعياد الفرس، على ما تقدّم ذكره في الكلام على أعياد الأمم في المقالة الأولى. وكان للكتّاب به اهتمامٌ في أوائل الدّولة العبّاسية بالعراق، جرياً على ما كان عليه الفرس من قديم الزمان.
وفيه لأبي الحسين بن سعد: هذا يومٌ شرّفته العجم، ورعى ذمامه الكرم، وهو من أسلاف سيّدي ذوي النباهة، وأخلافه ذوي الطّهارة، بين منشيء رسمه، ومؤدّي حقّه، وكاسٍ له بقبول انتسابه إليه جمالاً يبقى على الأيام، وحالاً ينفق بها لدى الأنام، فليس أحدٌ أحق بالتهنئة به ممن سنّه آباؤه، وشيّدته آلاؤه، فصارت إلى أوّليّته نسبته، وبكرم سجيّته عصمته.
وفيه له: هذا- أيد الله سيّدي- يومٌ عظّمه السّلف من العجم، وسيّدي وارث سنّة الكرم، وللسادة على العبيد في هذا اليوم رسم في الإلطاف، وعليها لهم حقٌّ في القبول والإسعاف، وقد بعثت بما حضر جارياً على سنّة الخدمة، وعادلاً عن طريق الحشمة، ومقتصراً على ما اتّسعت له الحال، وما يوجبه قدر سيّدي من المبالغة في الاحتفال، فإن رأى أن يشرّف عبده بالاحتمال إليه، وإجرائه مجرى الأنس عنده، فعل، إن شاء الله تعالى.
وفيه للكرجيّ: هذا يومٌ تسمو له العجم، ويستعجم في العرب، تشريفاً له واعترافاً بفضله، واقتداءً بأهله، وأخذاً بسنّتهم فيه، فليهن لإحراز الدولة في العزّ منزلاً بحيث لا يرام، ولا يضام، ولا ترقى إليه الأماني، ولا يطمع في مساواته المساوي، وإنّهم بعد تصرّم الدولة على حميد آثارها، وجميل الذّكر فيها، أعلامٌ تضرب بهم الأمثال، وتزهو بأيّامهم الأيّام، وآثارهم تقتفى، وأعيادهم تنتظر، يتأهّب لها قبل الأوان، ويعرف فيها أثر الزمان، وإنك منهم في الذّروة السامية، والرّتبة العالية، وبمحلٍّ لا عار معه على حرّة في الخشوع لك، والتعلّق بحبلك. وقد وجدت الأتباع عند ساداتها في مثل هذا اليوم على عادةٍ في الإلطاف جسّمتها، وسيّرت بها على أقوام منحتهم ظهور الدّعوى فيها، فأقبل قائلهم يقول: لو كان باب الإهداء مفتوحاً غير مسدود، ومباحاً غير ممنوع، لأتحفت بالغراب الأعصم، والكبريت الأحمر، والأبلق العقوق، وبيض الأنوق.
وقد بعثت بهديّة لا تردّ، يعني الدّعاء.
وفيه: من كان محلّك من العزّ، ونباهة الذّكر، وارتفاع الدّرجة، وعلوّ المنزلة، وسعة البلد، وبعد الأمد، لم يتقرّب متحلٍّ بالعلم والأدب إليه في يومٍٍ جديدٍ إلاّ بصالح الدّعاء، وحسن الثناء.
وفيه: لو أخّرنا هذا انتظاراً لوجود ما تستحقّه، لانقضت أيّامنا، بل أعمارنا، قبل أن نقضي حقّاً، أو نؤدّي عن أنفسنا فرضاً؛ لارتفاع قدرك عمّا تحويه أيدينا، وعلوّ حالك عمّا تبلغه آمالنا، وقد اقتديت بسنّة الخدم والأولياء في الأعياد، وأوضحت العذر في ترك الاجتهاد، وبعثت في هذا اليوم، الذي أسأل الله أن يعيده عليك ألف عام، في نماء من العز، وعلوّ من القدر، وتمامٍ من السّرور، ومزيدٍ من النّعمة.
الصنف الثامن: التهنئة بالمهرجان.
وهو أحد أعياد الفرس، على ما تقدّم ذكره في المقالة الأولى في الكلام على أعياد الأمم.
وكان للكتّاب من الاحتفال بالتهنئة به في أوائل الدولة العبّاسيّة ما لهم بالنيّروز.
فيه لأبي الحسين بن سعد:
لسيّدي عليّ في الأعياد المشهورة، والأيّام الجديدة، عادةٌ اختزلني عن بعضها في هذا الفصل، كلال الطّبع عن البعض، ووقوع الخطر بعرضه من الثناء نظماً ونثراً، ومن الإهداء عرضاً وبرّاً، دعاءٌ تزيد قيمته على الأخلاق الثّمينة، وموقعه على الذخائر النّفيسة، ولطفه على التّحف البديعة، فأسعد الله سيدي بهذا اليوم سعادةً تقيم، ولا تريم، وتزيد، ولا تبيد، وتتوطّن، ولا تظعن، وتجمع حظوظاً من الخيرات، وفوائد من البركات، يتّصل سندها، ولا ينتهي أمدها، وأبقاه في أسبغ عزٍّ وأرفع رتبة وأرغد عيشة، مكنوفاً بحراسةٍ تقيه وآله عوادي الزمان، وتصرف عنهما طوارق الحدثان، ما طرد الليل النّهار، وطلع نجم وغار، وعلى ذلك- أيد الله سيدي- فإنّ الحرص على إقامة الرّسم والتطيّر من إضاعة الحقّ بعثاني على مراجعة القريحة، واستكداد الرّوّية، فأسعفا بما قبلته الضرورة، ولم أطع في إهدائه سلطان الحشمة، وفضل سيدي يتّسع لقبول الميسور، وتحسين القبيح، والله المعين على تأدية حقّه، والقيام بواجب فرضه.
وله فيه أيضاً، إلى من منع أن تهدى إليه فيه هدية.
لو كنت فتحت باب الإلطاف، ونهجت إليه سبيلاً، لتنازع أولياؤك قصب السّبق وتنافسوا في السّرف، فبان للمجتهد فضله، والتمس العذر في التقصير ملتمسه، وعمّت المنحة كافّتهم بما يظهر من مواقعهم، وينكشف من أحوالهم، لكنّك حظرت ذلك حظراً استوى فيه الفريقان في الحكم، وامتدّ فيه على ذوي الخلل السّتر، ولم تحظر الدّعاء، إذ حظرت الإهداء، فأنا أهديه ضرورةً واختياراً، وإعلاناً وإسراراً، فأسعدك الله بهذا العيد الجديد، الذي زاد بك في قدره، وشرّفه بأن جعلك من أربابه وولاة أمره.
أبو الفرج البّبغاء: هذا اليوم من غرر الدّهور المشهورة، وفضائل الأزمنة المذكورة، معظّمٌ في العهد الكسرويّ، مستظرفٌ في العصر العربيّ، باعثٌ على عمارة المودّات، مخصوص بالانبساط في الملاطفات، ولست استزيده- أيّده الله- من برٍّ يوليه، ولا تطوّل إليّ يسديه؛ غير إدخال في جملة من بسطته الأنسة، وثقّفته المحبّة، وتقرّبت منه بوكيد الخدمة، في قبول ما إن شرّف بقبوله، كان كثيراً مع قلّته، جليلاً مع نزارته، فإن رأى أن يقوّي منه ثقتي، ويقابل بقبولٍ ما أنفذته رغبتي، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله: قد أطعت في الانبساط إليك دواعي الثّقة، وسلكت في التحرّك بك سبل الأنسة، وتوصّلت بملاطفتك إلى حسم موادّ الحشمة، فاستشهدت على ثقتي بك فيما أنفذته بمفارقة الحفلة، وكلف المكاثرة، فإن رأيت أن تكلني في تقبّله إلى سعة أخلاقك، وتسلك في ذلك أخصر طريقٍ إلى ما أخطبه من مودّتك، وأزاحم عليه في إخائك، فعلت، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله: هذا اليوم- أيّد الله سيدي- من أعياد المروّة، ومواسم الفتوّة، وأوطان السرور، ومحاسن الأزمنة والدّهور، بلغّه الله أمثاله في أنضر عيشٍ وأسبغ سلامة، وأبسط قدرة وأكمل مسرّة، وقد توثّبت إلى الاقتداء فيه بأدبه، والأخذ بمعرفة فروضه بمذهبه، وأطعت في الانبساط إليه دواعي الثّقة، وأنفذت ما اعتمدت في قبوله على مكاني منه، عائداً بالتقليل من كلف المكاثرة، ومستثقل الكلفة، فإن رأى أن يأتي فيما التمسته ما يناسب شرف طبعه، وسعة أخلاقه، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله: لو كانت الملاطفات بحسب الرّتب وقدر المنازل، لما انبسطت قدرةٌ ولا اتسع مكان لما يستحقّه نبل محلّه، وواجبات رياسته، ولكنت من بين خدمه ضعيف المنّة عن خدمته في هذا اليوم السعيد، بلّغه الله أمثاله في أفسح أجل، وأنجح أمل، بما يخدمه به ذوو الخدمات الوكيدة عنده، المكينة لديه، غير أنّي أثق منه- أيّده الله- بحمل قليلي على علمه بإخلاصي في ولائه، وانتسابي إلى جملته، واختلاطي بأنسابه، فإن رأى أن يجيرني في قبول ذلك على سنّة أمثاله من ذوي الجلالة، عند أمثالي من الأولياء والحاشية، فعل.
وله في مثله:
لو كانت الهدايا لا تتقبّل ما لم تناسب في نفاسة القدر، وجلالة الذكر، محلّ من يتقرّب بها إليه، ومنزلة من أهداها إليه عليه، لما سمت همّة، ولا اتّسعت قدرة، لما يستحقه- أيّده الله- بأيسر واجباته، وأصغر مفترضاته، غير أنّ الأنسة بتفضله، والاعتداد بسالف تطوّله، والتحقّق بخدمته، والانتساب إلى جملته، بسطني إلى إنفاذ ما إن شرّفني بقبوله كان مع قلّته كثيراً، ومع نزارته جليلاً، فإن رأى أن يقوّي بذلك منه ثقتي، ويحسم مادّة احتشامي، فعل.
أجوبة التهنئة بالمواسم والأعياد.
قال في موادّ البيان: هذه الكتب والرّقاع مضمونها الهناء بالموسم الجديد، والدعاء للمهنإ فيه بتملّيه.
قال: وهذا المعنى مفاوض بين المهنّي والمهنّى، وينبغي أن تكون أجوبتها مشتقّةً منها. ثم قال: وقد يتصرّف الكتّاب فيها إذا كاتبوا الرّؤساء تصرّفاً يخرج عن هذا الحكم.
وهذه أمثلة من ذلك: أبو الفرج الببغاء: سمع الله دعاءك، وبدأ في تقبّل المسألة بك، وأجزل من أقسامه حظّك، وبلّغك أمثاله في أفسح مدد البقاء، وزاد فيما خوّلك من المواهب والنّعماء، ولا أخلاني من برّك، وأنهضني بواجباتك.
وله في مثله: كلّ يوم أسعد فيه بمشاهدتك، وأقطعه في ظلّ مودّتك، حقيقٌ بالإحماد، موفٍ على محاسن الأعياد، فسمع الله دعاءك، وأطال ما شئت البقا بقاءك، وجعل سائر أيّامك مقرونةً بالسّعادات، موصولةً بتناصر البركات.
من زهر الربيع: يخدم المجلس العالي جعل الله قدره على الأقدار سامياً، وجزيل نواله على من هام به العفاة هامياً، ونصره نصراً عزيزاً، وأسكنه من حراسته حصناً حصيناً وحرزاً حريزاً، ولا زالت الأيّام حالية الجيد بوجوده والأيدي تهشّ إلى تنأول أياديه وجوده، وأخبار المكارم عنه مرويّة وإليه معزوّة، وآيات فضله وفضائله بكلّ لسانٍ متلوّة.
وينهي إلى علمه ورود مشرّفته التي حلّت الأسماع عندما حلّت، وسمت عن الرّياض لمّا جلّيت عروس فضلها وجلّت، وزهت على زهورها، برقم سطورها، وطيب عرفه الذي ما برح متحقّقاً بجميله وجزيله، وشاكراً لكثيره وقليله، وحصلت له البشرى، والمسرّة الكبرى، ليس للعيد بمفرده، ولا لهذا الهناء بمجرّده، بل لبقاء المولى ودوام سعادته، وتخليد سيادته، فإنّه لكلّ إنسان عينٌ ولكلّ عين إنسان، وهو روحٌ والأيّام والأنام جثمان، فالمملوك ببقائه كلّ يومٍ يتجدّد له عيدٌ جديد، ويتضاعف له جدٌّ سعيد، حرس الله شرفه الرفيع من الأذى، وأراه في عين أعاديه جذعاً ناتئاً وسلّم لحظه المحروس من القذى، وأصار أيّامه كلّها أيام هناء، وبداية سعادته بغير حدٍّ وانتهاء.
الضرب السادس: التهنئة بالزواج والتسرّي:
من كلام المتقدّمين:
أبو الفرج الببغاء: وصل الله هذا الاتّصال السعيد، والعقد الحميد، بأحمد العواقب، وأجمل المنح والمواهب، وجعل شمل مسرّتك به ملتئماً، وسبب أنسك بإقباله منتظماً، وعرّفك به تعجّل البركات، وتناصر الخيرات، ولا أخلاك فيه من التّهاني بنجباء الأولاد، وكبت بكثرة عددك سائر الحسّاد، وهنأني النعمة الجليلة بإخائك، وعضّدني وسائر إخوانك ببقائك.
وله في مثله: قرن الله بالخيرة ما عقدت وبالسعادة ما جدّدت، وبجميل العاقبة ما أفدت، وعرّفك بركات هذا الاتصال، ولا أخلاك فيه من موادّ السعادة والإقبال، وعضّدك بالبررة من عقبك، والسادة من ذرّيّتك.
وله في مثله: إنّي وإن كنت ملتحفاً بلحف مودّتك، ومتمسّكاً بعصم أخوّتك، أولى بالتهنئة بما يحدث لك من ورود نعمة، واتّصال موهبة، فإنّي ما أجد فرض الدعاء لك ساقطاً، ولا واجب الشكر لله تعالى على ما أولاني فيك زائلاً، فعرّفك الله بركة هذا الاتصال الحميد، والاقتران السّعيد، وجعله للسّرور مكثّراً، وباليمن مبشّراً، وأحياك للتهاني بمثله في السادة من ولدك، والنّجباء من ذرّيّتك.
وله في مثله: وصل الله هذا الاتصال الميمون بأرجح البركات وأفضلها، وأنجح الطّلبات وأكملها، وأحمد بدأه وعقباه، وبلّغك الآمال في سائر ما تهواه، وأحياك للتّهاني بأمثاله في البررة من ولدك، والنّجباء من عقبك.
من كلام المتأخرين: للشيخ شهاب الدين محمود الحلبي:
جعل الله الخيرة له فيما يذره ويأتيه، والنجاح مقروناً فيما يعيده من الأوامر ويبديه، والألسنة شاكرةً بما يوليه من الإنعام ويسديه. صدرت هذه الخدمة معربةً عن ثناءٍ تأرّج عرفه، وولاءٍ أعجز الألسنة شرحه ووصفه، وتهنئةٍ بهذه الوصلة المباركة جعلها الله للاتصال بالسعادة سبباً، ومحصّلةً من الخيرات مراماً وافراً وأرباً، وعرّفه بركة هذا العرس الذي أصبح الخير بفنائه معرّساً، ونور الشمس من ضياء بهجته مقتبساً، فنحمد الله على هذه الوصلة سرّاً وجهراً، ونشكره أن جعل بينه وبين السّعد نسباً وصهراً، منح الله المولى الرّفاء والبنين، والعمر الذي يفني الأيام والسّنين، ورزقه إسعافاً دائماً وإسعاداً، وأراه أولاد أولاده آباءً بل أجداداً، إن شاء الله تعالى.
أجوبة التهنئة بالزواج والتّسرّي.
قال في موادّ البيان: أجوبة هذه الرّقاع يجب أن تكون شكراً للمهنّي على العناية والاهتمام، ومشتملة على الإبانة عن موقع دعائه من التبّرك والتيّمن به، إلا أن تكون البداية بمعنىً يخرج عمّا هذا جوابه، فينبغي أن يجاب عنه بما يقتضي الإجابة عن ذلك.
الضرب السابع من التهاني: التهنئة بالأولاد:
وهو على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: التهنئة بالبنين:
مما أورده أبو الحسين بن سعد في ترسّله: إنّه ليس من نعم الله وفرائد قسمه وإن حسن موقعها، ولطّف محلّها، نعمةٌ تعدل النعمة في الولد، لنمائها في العدد، وزيادتها في قوّة العضد، وما يتعّجل من عظيم بهجتها، ويرجى من باقي ذكرها في الخلوف والأعقاب، ولا حق بركتها في الدعاء والاستغفار.
ومنه: إنّه ليس من النّعم نعمةٌ تشبه النعمة في الولد، لزيادتها في قوّة العضد، وحسن موقعها في الخلف والعقب، واتصل بي خبر مولودٍ فسرّني ما وصل الله به من العارفة إليك، وشركتك في جميل الموهبة فيه شركة من له ما لك وعليه ما عليك، وسألت الله أن يوزعك شكر النّعمة ويؤنس بهذا المولود ربعك، ويكثّر به غددك، ويعظّم بركته ويمن طائره عليك، ويزيد في النعمة كذلك، ويفعل الله ذلك، بمنّه وطوله.
وفيه لأبي الحسين بن سعد إلى أبي المسلم بن بحر يهنّئه بابنٍ حدث له: فأمّا ما جدّد الله من النعمة في القادم والموهوب لك ولداً وأنساً، ولنا سنداً وذخراً، فقد جلّ قدره هذه الموهبة عن أن يحاط لها بوصف، أو يوفى لها بشكر.
وفيه لعلي بن خلف: وينهي أنه اتّصل بالمملوك بزوغ نجم سعدٍ في مشارق إقباله، مؤذنٍ باتّساق سموّه وجلاله، فأحدث من الحلال والاستبشار بمقدمه، والتبرّك والتيّمن بقدمه، ما تلألأت على المملوك أنواره، وحسنت عنده آثاره، وسألت الله تعالى راغباً إليه في أن يعرّفه سعادة مولده، ويمن موفده، ويجعله شادّاً لعضده، ومورياً لزنده، ويشفعه والسادة السابقين، بنجباء متلاحقين، يتبلّجون في نطاق سعادته، ويتوسّمون في آفاق سيادته، ويصون سلكهم من الانفصام، وشملهم من الانهدام، ويبقيهم غرراً في وجوه الأيّام، وأقماراّ في صفحات الظّلام، بمنّه وفضله، إن شاء الله تعالى.
وفيه له: وينهي أنّ المملوك يشكر الله تعالى على ما أنزله عند مولانا من عوارفه، واختصّه به من لطائفه، شكر من شاركه في النعمة المسبغة عليه، وانتهى إليّ خبر السّند المتجدّد لمولانا، فطار المملوك بخوافي السّرور ومقادمه، وأخذ من الابتهاج بأوفى قسمه، وسأل الله تعالى أن يبارك له في عطيّته، ويردفه بزيادته، ويوفّر عدده، ويشدّ بصالح الولد عضده، ويجنيه من هذا القادم ثمار المسرّة، ويري عينه منه أقرّ قرّة، ويشفع المنحة في موهبته بإطالة مدّته.
وفيه: وينهي أنّ أفضل النّعم موقعاً، وأشرفها خطراً وموضعاً، نعمة الله تعالى في الولد؛ لزيادتها في العدد وقوّة العضد، وما يتعجّل من عظم جمالها وزينتها، ويرجى من عظم مآلها وعاقبتها، في حفظ النسب والأصل، وحسن الخلافة على الأهل؛ وجميل الذّكر والثّناء، ومتقبّل الاستغفار والدّعاء، وقد اتصل بالمملوك بزوغ هلال سماء المجد، ومتعلّق الإقبال والسّعد، فأشرقت الأيّام بإشراقه، ووثقت الآمال باجتلائه واتّساقه، فقام المملوك عن مولانا بشكر هذه النّعمة المتجدّدة، والموهبة الراهنة الخالدة، وهنّأت نفسي بها، وأخذت بحظّي منها، والله تعالى يعرّفه يمن المولود من أطهر والدة وأطيب والد، ويعمّر به منزله، ويؤنس ببقائه رحله، ويبلّغ محبّيه، من الآمال فيه، ما بلّغهم في الماجد أبيه، إن شاء الله تعالى.
وفيه: وينهي أنّ نعم الله تعالى وإن كانت على مولانا متظاهرة، ولديه متناصرة، فقد كان المملوك يرغب إلى الله تعالى في أن يجمّل الأيّام من نسله، بمن يحفظ عليه شرف أصله، ويخلفه بعد العمر الطويل في نبله وكرم فعله، ولمّا اتصل بالمملوك نبأ هذا الهلال البازغ في سمائه، المقرّ لعيون أوليائه، المخيّب لظنون أعدائه، حمدت الله تعالى على موهبته، وسألته إقرار نعمته، وأن يعرّف مولانا بركة قدمه، ويمن مقدمه، ويوّفر حظّه من زيادته، وسعادة وفادته، وأن يجعله برّاً تقيّاً، مباركاً رضيّاً، ويفسّح في أجله، ويبلّغه فيه أمله، إن شاء الله تعالى.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: [كامل]
هنّئت بالإسعاف والإسعاد ** ونفاذ أمرٍ في العدا بنفاد

وبقيت ما بقي الزمان مهنّأً ** ووقيت شرّ شماتة الحسّاد

يا مالك الرّقّ الّذي أضحى لنا ** من جوده الأطواق في الأجياد

خلّدت في عيش هنيٍّ أخضرٍ ** يسطو ببيض ظباً وسمر صعاد

حتّى يخاطبك الزمان مبشّراً ** متّعت بالإخوان والأولاد

جدّد الله في كلّ يوم له مسرّةً وبشرى، وأطاب لعرفه عرفاً ونشراً، وشدّ له بولده السعيد الطلعة أزراً وأسراً، وسرّى به الهموم عن القلوب وأصارها لديه أسرى، ورفع درجته إلى سماء المعالي ليقال: سبحان الذي بعبده أسرى.
المملوك يخدم المولى ويهنّيه ويشكره ويطلعه على ما حصل له من الابتهاج للسبب الذي ينهيه ويذكره، وهو أنه اتّصل به قدوم المسافر بل إسفار البدر، وظهور ميمون الغرّة الذي جاء لأهله بأمانٍ من صروف الدّهر، وهو الولد العزيز الموّفق النّجيب، فلان، أبقاه الله تعالى ليحيا مشكوراً محموداً، وأدام عزّه وعلاه، وأعلى نجمه وخلّد شرفه وبهاه، وضاعف سناءه وسناه، وأرانا منه ما أرانا من السعادة في أبيه، فسرّ وابتهج بهذه النعمة غاية السّرور والابتهاج، واتّضح له في شكر إحسان المولى وحسن ولده كلّ طريقٍ ومنهاج، وسأل الله تعالى أن يطوّل له عمراً، ويجعله لإسعاد والده وإسعافه ذخراً، ليرتعا في رياض الدّعة في صحّة وسلامة، ويجعلا في فناء العلا لهما دار إقامة، ويبلغا من السعادة درجةً لا تريم عاليةً ولا ترام، وتخضع لهما الّليالي والأيّام، ويرشقاهما بسهام الصّروف ويطعناهما بأسنّتها، ويفهما دعاء الأيام لهما من صدورها ويسمعاه من ألسنتها، مخاطبةً لأبيه، ومنشدةً لسائر أهله ومحبّيه: [رجز]
مدّ لك الله الحياة مدّا ** حتّى ترى نجلك هذا جدّا

الصنف الثاني: التهنئة بالبنات:
من كلام المتقدمين:
أبو الحسين بن سعد:
النّعمة نعمتان، إحداهما تعجّل الأنس، والأخرى تدّخر الأجر، وعلى حسب ما تتلقّى به من الشكر على ظاهر المحبوب، والتّسليم فيما يجري مجرى بعض المكروه، يكون المتاع عاجلاً، والثواب آجلاً، وما قدّمت القول إلاّ لما ظننته يعرض لك من الوجوم في هذه الموهبة في المولودة التي أرجو أن يعظّم الله بركتها، ويجعلها أيمن مولودٍ في عصرها، ودالّةً على سعادة أبيها وجدّها، ولئن كان في الطبع حبّ الذّكور والشّغف بالبنين، فإنّ البنين من البنات، وهنّ باليمن معروفات، وبالبركات موصوفات، وبالذّكور في أثرهنّ مبشّرات، فهنّأك الله النعمة فيها تهنئةً لا تنقضي سعادتها، ولا يعترض النقص والتقدير شيئاً منها، وأبقى هذه الصبيّة ممتعاً أبوها بها، ومنشأً له الحظّ من حداثتها، وبلّغها أفضل مبالغ الصالحات الفاتنات من أمّهاتها، وجعل في مولدها أصدق دليل على طول عمر أبيها وسعادة جدّه، وتضاعف نعم الله عنده، إنه لطيفٌ جواد.
أبو مسلم محمد بن بحر: مرحباً ببكر النّساء، وبكر الأولاد، وعقيلة الخباء، والمأمولة للبركة، والمشهورة باليمن، وقد جرّبناه فوجدناه معهوداً مسعوداً، والله يعرّفك أضعاف ما عرّف من قبلك، ويبارك لك فيما رزقك، ويثنّي لك بأخٍ للمولودة ويجعله رديفها، وفي الخير قرينها وشريكها.
عليّ بن خلف: وينهي أنّ المملوك اتّصل به ارتماض مولانا بمقدم الكريمة الوافدة، بطالع السّعادة المتجدّدة، فعجب المملوك من وقوع ذلك من مثل مولانا مع كمال نبله، وشرف عقله وعلمه، فإنّ الله تعالى جلّ اسمه يقول: {يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذّكور} وإنّ ما جدّده الله تعالى من مواهبه جديرٌ أن يتلقّى بالسّرور والفرح، لا بالاستياء والتّرح، لا سيّما والذّكر إنما يتفضّل على الأنثى بنجابته لا بحليته وصورته، وقد يقع في الإناث من هو أشرف من الذّكور طبعاً، وأجزل عائدةً ونفعا، وقد روي أنّ رسول الله، صلى الله عليه وسلّم قال: إذا رزق العبد الأنثى نادى منادٍ من السماء: يا أهل الدار، أبشروا بالرّزق، وإذا رزق ذكراً نادى منادٍ من السماء.
أبو الفرج الببغاء: لو كان الإنسان متصرّفاً في أمره بإرادته، قادراً على إدراك مشيئته، لبطلت دلائل القدرة، واستحالت حقائق الصنّعة، ودرست معالم الآمال، وتساوى الناس ببلوغ الأحوال، غير أنّ الأمر لمّا كان بغير مشيئته مصنوعاً، وعلى ما عنه ظهر في الابتداء مطبوعاً، كان المخرج له إلى الوجود من العدم، فيما ارتضاه له غير متّهم، ومولانا- أيّده الله- مع كمال فضله، وتناهي عقله، وحدّة فطنته، وثاقب معرفته، أجلّ من أن يجهل مواقع النّعم الواردة من الله تعالى عليه، أو يتسخّط مواهبه الصادرة إليه، فيرمقها بنواظر الكفر، ويسلك بها غير مذاهب الشكر.
وقد اتّصل بالمملوك خبر المولودة كرّم الله غرّتها، وأطال مدّتها، وعرّف مولانا البركة بها، وبلّغه أمله فيها، وما كان من تغيّره عند اتّضاح الخبر، وإنكار ما اختاره له سابق القدر، فعجب المملوك من ذلك واستنكره، من مولانا وأنكره، لضيق العذر في مثله عليه.
وقد علم مولانا أنّهن أقرب إلى القلوب، وأنّ الله تعالى بدأ بهنّ في الترتيب فقال جلّ من قائل: {يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذّكور} وما سمّاه الله هبةً فهو بالشّكر أولى، وبحسن التقبّل أحرى، ولكم نسبٍ أفدن، وشرفٍ استحدثن، من طرق الأصهار، والاتّصال بالأخيار، والملتمس من الذّكر نجابته، لا صورته وولادته، ولكم ذكرٍ الأنثى أكرم منه طبعاً، وأظهر منه نفعاً، فمولانا يصوًر الحال بصورتها، ويجدّد الشّكر على ما وهب منها، ويستأنف الاعتراف له تعالى بما هو الأشبه ببصيرته، والأولى بمثله، إن شاء الله تعالى.
الصنف الثالث: التهنئة بالتّوءم.
أحسن ما رأيت من ذلك قول بعض الشّعراء مما كتب به إلى بعض أصحابه، وقد ولد له ذكرٌ وأنثى من جاريةٍ سوداء، وهو قوله: [طويل]
وخصّك ربّ العرش منها بتوءم ** ومن ظلمات البحر تستخرج الدّرر

وأثرك أضحى وارثاً علم جابر ** فأعطاك من ألقبه الشّمس والقمر

الأجوبة عن التهنئة بالأولاد:
قال في موادّ البيان: أجوبة هذه الرّقاع يجب أن تبنى على شكر اهتمام المهنّيء ورعايته، والاعتداد بعنايته، وأنّ الزيادة في تجدّد المهنّى به زيادةٌ في عدده، وأن نصيبه من تحرّك السرور فيما يخلص إليه من المواهب كنصيبه؛ لتناسبهما في الإخاء، وتوافيهما في الصّفاء، وأن تراعى مع ذلك مرتبة المهنّي والمهنّى، ويبنى الخطاب على ما يقتضيه كلٌّ منهما.
وهذا مثالٌ من ذلك:
زهر الربيع:
وينهي ورود الكتاب الذي تشرّف المملوك بوروده، وأشرقت الأيّام بكمال سعوده، وأرغم ببلاغته معطس مناويه وحسوده، فشكر أيادي من أنعم بإرساله، واكتسى بالوقوف عليه حلّة من حلل فخره وجماله، وبالغ في إكماله، حتّى وقف إجلالاً له بين يديه، ثم تلا آيات حسنه على أذنيه، فوجده مشتملاً على إحسانٍ لم يسبقه إلى مثله أحد، ومننٍ أودعها فيه فلا يحصيها حصر ولا عدد، فهيّج بوروده رسيس الأشواق، وتقلّد بإنعام مرسله كما قلّدت الحمائم بالأطواق، ووجد لوعةً لا يحسن وصفها لسان اليراع في الأوراق، وعلم ما أشار إليه المولى من التهنئة بالولد الجديد، بل بأصغر الخدم والعبيد، وما أبداه من الابتهاج لميلاده وأظهره من التفضّل المعروف من آبائه الكرام وأجداده، ولم لا يكون الأمر كذلك والوالد مملوكه؟ وهو مملوك السادة الأجلاّء أولاده، حرس الله مجده ومتّعه بثوب مكارمه، وخفض قدر محاربه ورفع كلمة مسالمه، ولا زال مماليكه تتزيد تزيّد الأيّام وسعادته باقيةً بقاء الأعوام، وعين العناية تحرسه في حالتي السفر والمقام، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثامن من التهاني: التهنئة بالإبلال من المرض والعافية من السّقم:
فمن ذلك: وينهي أنّه ما زالت أجسام أهل، التّصافي تشترك في الأسقام والعوافي، كما تشترك أنفسهم في التخلّص والتّوافي، ولمّا ألمّ بمولانا هذا الألم الذي تفضّل الله تعالى بإماطته، ومنّ فيه على السؤدد بحراسة مولانا وحياطته، فرأيته حالاًّ في جوارحي، محرقاً لجوانحي، ممازجاً لأعضائي، مملّكاً لأنوائي.
ولئن كنت قد تحمّلت من ذلك عبّاً، وارتقيت من تحملّه مرتقىً صعباً، فلقد فخرت بمماسّته، وأحمدت طبعي على مشاكلته، وشكرت الله تعالى إذ جعلني شعبة من سرحته، وجبلّة من طينته، وعلى ما سرّ به من إقالته وإنعاشه، ومصافاته وإبشاشه، وسألت الله تعالى أن يبقيه نوراً يوضّح مغرب الدّهر ومشرقه، ودرّاً يرصّع فود المجد ومفرقه، ويحسن الدّفاع عن حوبائه وهو سبحانه وتعالى ذلك ويتقبّله، ويرفعه ويسمعه، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله: المملوك يهنّيء مولاه خاصّةً إذ جعله الله تعالى من صفوة أوليائه، وخالصة أحبّائه، الذين يبتليهم اختباراً، وينتابهم اختياراً، ليجمع لهم بين تمحيص وزرهم، ومضاعفة أجرهم، والحضّ على طاعته، والانصراف عن معصيته، ويهنّيء الكافّة عامّة بالموهبة في نوره المطلعة لأمل الإقبال، المروية لماحل الآمال، ثم أعطف على حمد الله على ما منّ به من إبلاله، ويسّره من استقلاله، والرًغبة إليه في أن يمنحه صحّةً تخلّد وتقيم، وعافية ترهن ولا تريم، وأن يحميه من عوارض الأسقام، ويصونه من حوادث الأيّام، بفضله وجوده، إن شاء الله تعالى.
أبو الفرج الببغاء: أفضل ما يفزع إليه العبد المخلص، والمولى المتخصّص، فيما ينوب سيّده ويهمّ وليّ نعمته، الدعاء المقترن بصدق النية، وصفاء الطويّة فالحمد لله الذي منّ بالصحّة وتصدّق بالإقالة، وتدارك بجميل المدافعة، وعمّ سائر خدمه أيّده الله بالنّعمة، وأعاده إلى أجمل عاداته من السلامة والصّحّة، فائزاً بمدّخر الأجر، متعبّداً بمستأنف الشّكر، فلا أخلاه الله من زيادةٍ فيما يوليه، ولا قصدنا بسماع سوءٍ فيه، وحرس من الغير مهجته، ومن المحذور نعمته.
وله في مثله: ما كنت أعلم أنّ عافيتي مقرونةٌ بعافيتك ولا سلامتي مضافةٌ لسلامتك، إلى أن تحقّقت ذلك من مشاركتي إيّاك في حالتي الألم والصحّة، والمرض والمحنة، فالحمد لله الذي شرّف طبعي بمناسبتك وجمّل خلقي بملاءمتك، فيما ساء وسرّ، وإيّاه تعالى أشكر على ما خصّني به من كمال عافيتك، وسبوغ سلامتك وسرعة إقالتك، وبه- جلّ اسمه- أثق في مزيدك من تظاهر النّعم، وتوفّر القسم.
وله في مثله:
ولولا أنّ متضّمن كتابك قرن ذكر المرض الهاجم عليك، بذكر ما وهبه الله لك من عود السلامة إليك، لما اقتصر بي القلق على ما دون المسير نحوك، والمبادرة لمشاهدتك، غير أنّ السّكون إلى ما أدّاه كتابك سابق الجزع، والطّمأنينة إلى ما وهبه الله من كفايتك حالت دون الهلع، فالحمد لله الذي منّ بالإقالة، وتصدّق بالسّلامة وعمّ الكفاية، وهو وليّ حراستك وحراستي فيك.
وله في مثله: سيّدنا في سائر ما يذكّره الله من هجوم ألمٍ مؤذن بصّحّة، واعتراض محنةٍ مؤدّية إلى منحة، مرموقٌ بالعافية، محروسٍ من الله جلّ اسمه بالحفظ والكلاءة، فهو مع العلة فائزٌ بذخائر الأجر، ومع العافية موفّقٌ لاستزادة الشّكر، فالحمد لله الذي عقد الكرم ببقائه، وشفى مرض الآمال بشفائه، وكفاه اعتراض المخوف، وعوارض الصّروف.
وله في مثله: ما انفرد جسمك بالعلّة دون قلبي، ولا اختصّت نفسك- حرسها الله تعالى- بمعاناة المرض دون نفسي، ولم أزل بالقلب تالياً، وفي سائر ما شكوته بالنّيّة مساوياً، إلى أن كشف الله الغمّة، وأقال العثرة، ونفّس الكربة، ومنّ بالسلامة، وتصدّق بالكفاية، وأوجب بالعافية علينا جميعاً فروض الشكر، بعد ما ادّخره لك بالألم من كثرة الأجر، فالحمد لله على ذلك حمداً يؤدّي إلى حراسة ما خوّلك، ويؤذن بالمزيد فيما منحك.
ومن كلام المتأخرين:
أعلى الله قدر الجناب الفلاني، ولا زالت شموس أيامه لا تخاف كسوفاً ولا أفولاً، وأقمار لياليه تغرس في قلوب أوليائه ومحبّيه فروعاً وأصولاً.
المملوك يخدم خدمة من تحّمل جميلاً، ونال من تفضّل الجناب الكريم جزيلاً.
وينهي ما حصل له من السّرور بعافية مولانا، فالشكر لله على ما جدّد من النّعمة التامّة، وسمح به من الكرامة العامّة، حين أعاد البدر إلى كماله. والسّرور إلى أتمّ أحواله، وما كانت إلاّ غلطةٌ من الدّهر فاستدركها، وصفقةٌ خارجةٌ عن يده فملّكها، فقرّت بذلك العيون، وتحقّقت في بلوغ الأمل الظّنون؛ وانجبر قلبه بعدما وهن، وعاد جفنه بعد الأرق إلى الوسن؛ وقال: الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن.
ولقد كان يتمّنى المملوك لو فاز من الرّؤية الشريفة بحظّ السمع والبصر، وتملّى بمشاهدة وجهه الكريم فإنّ فيه البغية والوطر.
والمملوك فما يعدّ نفسه إلا من المحبين الذين بذلوا نفوسهم لمحبته وأعدّوها، والله تعالى يسرّ الأولياء بتضاعف سعوده، ويديم بهجة الأيّام بميمون وجوده، ويطيل في مدّته ويحرسها من الغير، ويحرس أحوال مزاجه الكريم على القانون المعتبر، ويكفي أولياءه ومحبّيه فيه كلّ مكروهٍ وحذر، إن شاء الله تعالى.
من زهر الربيع: [متقارب]
ولمّا شكوت اشتكى كلّ ما ** على الأرض واهتزّ شرقٌ وغرب

لأنّك قلبٌ لجسم الزّمان ** وما صحّ جسمٌ إذا اعتلّ قلب

حرس الله جنابه، وأسبل عليه رداء السعد وأثوابه، ومتّعه ببرود العافية وجلبابها، وفتح له إلى نيل السعادة سائر أبوابها، ومنحه الكفاية والأمن في سربه، والعافية في جسمه من قلق كلّ مرضٍ وكربه، وجمع له بين الثّواب والأجر وجازاه بجزيل الغفران عن جميل الصّبر.
المملوك يبشّر نفسه ومولاه بما منّ الله به من صحّة مزاجه الكريم، والإبلال من مرضٍ كاد يدير كؤوس الحمام على كلّ صديقٍ حميم، ويحمد الله على عافيته حمداً جزيلاً، ويشكره عليها بكرةً وأصيلاً، فإنّه قد عوفي لعافيته المجد والكرم، وزال عنه إلى أعدائه الألم، فالمولى حفظ الله صحّته من السّقم، وحماه من ألم ألمّ، وجعل سعادته تتزايد على ممرّ الأنفاس، وجسده سالماً من الأذى كسلامة عرضه من الأدناس، إن شاء الله تعالى.
الشيخ جمال الدين بن نباتة: وقى الله من الأسواء شخصه الكريم، وشمله النّظيم، وقلب محبّه الذي هو في كلّ وادٍ من أودية الإشفاق يهيم.
ولا زالت الصحة قرينه حتّى لا يعتلّ في منازله غير مرور النّسيم، ويصف شوقاً يزيد بالأنفاس وقداً، ويجدّد للأحشاء وجداً، ويباشر القلب المغرم فيمدّ له من عذاب الانتظار مدّاً.
وينهي أنّه جهّز هذه الخدمة نائبةً عنه في استجلاء وجه أكرم الأحبّة، وتصافح اليد التي أقلام كتبها في شكوى البعاد أطبّة، مبدية إلى العلم الكريم أنّه مع ما كان يكابده من الأشواق، ويعالجه من خواطر الإشفاق، بلغه ضعف الجسد الموقّى، وعارض الألم الذي استطار من جوانح المحبّين برقاً، فلا يسأل الجناب الكريم عن قلبٍ تألّم، وصدرٍ صامتٍ بالهموم ولكنّه بجراح الأشجان تكلّم، ولسانٍ أنشد: [طويل]
ألا ليتني حمّلت ما بك من ضنىً ** على أنّ لي منه الأذى ولك الأجر

ثم لطف الله تعالى وعجّل خبر العافية المأمولة، والصحة المقبلة عقيب الدّعوات المقبولة، فيا لها مسرّة شملت، ومبرّة كملت، وتهنئة جمعت قلوب الأودّاء وجملت، وأعضاء فدتها عيون المها فنقلت عنها صفات السّقام وحملت، وعافية حوّلت إلى قلوب الأعداء المرض، وجوهر جسدٍ طاهرٍ زال عنه بأس العرض، فهنيئأ له بهذه الصحة المتوافرة الوافية، والحمد لله ثم الحمد لله على أن جمع بين حصول الأجر ووصول العافيه، وعلى أن حفظ ذاته الكريمة وحفظها هو المقدمة الكافية الشافيه: وتقاسم الناس المسرة بينهم قسماً فكن أجلهم قسما أنا! والله تعالى يسبغ عليه ظلال نعمهو ويحفظه حيث كان في نفسه وأهله وخدمه، وكما سر الأحباب بخبر عافيته كذلك يسرهم بعيان مقدمه.
أجوبة التهنئة بالإبلال من المرض والعافية.
قال في موادّ البيان: أجوبة هذه الرّقاع يجب أن تكون مبنيّةً على وصف الألم وصورته وما تفضّل الله تعالى به من إماطته، وشكر المهنّي باهتمامه وعنايته.
وهذه أمثلة من ذلك:
من زهر الربيع: أدام الله نعمته، وشكر منّته، وأدال دولته، وأعلى قدره وكلمته، وحتّم على الألسنة شكره والقلوب محبّته، ولا زالت التهاني من جهته وافدة، والبشائر واردة. وينهي ورود الكتاب الذي أعدّته يد المعالي فعاد كريماً، وشاهد حسن منظره فصار وجهه وسيماً، وأنه وقف عليه، وأحاط علماً بكّل ما أشار المولى إليه، فذكّره أنساً كان بخدمته لم ينسه، وجدّد له وجداً ما زال يجد في قلبه ونفسه عينه ونفسه، ونشر من مآثره المأثورة، وفضائله المرقومة في صفائح الصّحائف المسطورة، ما شنّف به وشرّف، وشوّق إلى لقائه وشوّف، وأقام البرهان على ذكيّ فطنته، وزكيّ فطرته، وعلم ما أنعم به وتفضّل، وأحسن وتطوّل، من تهنئة المملوك بالإبلال من مرضه، والبرء من سقمه، والتخلّص من يدي وجعه وألمه، وسرّ بورود كريم مشرّفته، أعظم من سروره بلباس ثوب عافيته، وبداوم مجده وسعادته، أكثر من صحّة مزاجه واستقلمته، فإنّ مكارم المولى كالحدائق النّاضرة، ومنزلته أعز في القلوب من الأحداق الناظرة.
فالحمد لله الذي منّ بالعافية من ذلك المرض، والداء الذي ألمّ بعرضيه فاحتوى منهما على الجوهر والعرض، وطال حتّى أسأمه من نفسه وعوّاده، وآيسه من الحياة لولا لطف الله والله لطيفٌ بعباده، وهذا ببركة المولى ودعائه الذي كان يرفعه والخواطر والأسماع مع بعد الشّقّة تشهد به وتسمعه، جعل الله التهاني مع الأبد واردةً منه وإليه، وشكر إنعامه وأتمّ نعمته عليه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وكتبت للمقرّ العلائيّ علاء الدين الكركيّ وهو يومئذ كاتب السّرّ الشريف في الدولة الظاهرية برقوق في سلطنته الثانية، وقد برأ من مرض نظماً: [بسيط]
أفديه من جسدٍ قد صحّ من سقم ** فبات جوهره خالٍ من العرض

فاستبشرت بعليّ القوم شيعته ** ومات حاسده بالسّقم والمرض

الضرب التاسع: التهنئة بقرب المزار:
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: قرّب الله مزاره، وأدنى جواره، وأعان أعوانه ونصر أنصاره، ولا زالت الأنفس لقربه مسرورة، ورايات مجده في الملأ الأعلى وأحزاب الإسلام بهيبته على أعداء الدّين منصوره.
المملوك يقبّل الباسطة العالية بسط الله ظلّها، وشكر على الأولياء فضلها، وينهي أنه اتّصل به طيّب أخباره، وقرب مزاره، فتضاعف شوقه، وتزايد توقه، وهيّجت صبابته لاعجه، وسهّلت إلى نيل المسرّة طرقه ومناهجه: [وافر]
وأبرح ما يكون الشّوق يوماً ** إذا دنت الدّيار من الدّيار

فالله يقرّب من أمد التّلاقي بعيداً، ويجعل رداء الاجتماع بخدمته قشيباً جديداً.
الضرب العاشر: التهنئة بنزول المنازل المستجدّة:
فمن ذلك من إنشاء عليّ بن خلف:
أشرف المنازل رقعة، وأترفها بقعة، وأرفعها رفعة، ما اتّخذه مولانا لنفسه موطناً، وجعله بنزوله فيه حرماً آمناً، وصيّره بمخصب مكارمه للعفاة مراداً ومقصداً، وبمعذب نوافله للظّماة مشرعاً ومورداً، وللسّؤدد بمجده معقلاً، وللرّياسة بشرفه منزلاً، والله تعالى يجعل هذه الدار التي تديّرها وحلّها، وحطّ بها رحله ونزلها، مأهولةً ببقائه، آنسةً بسبوغ نعمائه، عامرةً بسعادته، مشيدةً بتناصر عزّه وزيادته، لا تخطئها حوائم الآمال، ولا تتخطّاها ديم الإقبال، ويعرّفه من بركتها، ويمن عتبتها، ما يقضي بامتداد الأجل، وانفساح الأمل، وبلوغ الأماني، واتّصالا التّهاني، بمنّه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك: وينهي أنه قد اتّصل بالمملوك تحوّل مولانا إلى المنزل المنشأ الجديد، ذي الطالع السعيد، والطائر الحميد، فسألت الله تعالى أن يبوّئه منه المبوّأ الكريم، ويمتّعه فيه بالدّعة والنّعيم، والنّماء والمزيد، والعيش الرّغيد، ويجعله واصلاً لحبله، مأهولاً بأهله، ويعرّفه بركة عتبته، ويملّيه ببهائه ونضارته، وحصل للمملوك السّرور بأن بلّغه الله الوطر، في سكنى ما عمر، وأناله الأمل والالتذاذ بخدمته، والسّرور بافتضاض عذرته، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك: مولانا- أمتع الله بوجوده- غنيّ عن الهناء بمنزلٍ ينزله ومحلٍّ يحلّه، إذ الله سبحانه وتعالى قد كثّر أوطانه وأدره، وبلّغه في تمام عمارتها وانفساحها وطره، وخصّه بأفضلها معاناً، وأشرفها مكاناً، والمستوجب في الحقيقة للهناء هو الموضع الذي اختاره داراً، وارتضاه مستقرّاً، وعرف المملوك انتقاله- لا زال يتنقّل في بروج السّعد، ويأوي إلى ظلٍّ ظليلٍ من المجد- إلى الدار الفلانية لا زالت جامعةً لشمله، مأنوسةً بأهله، فعدل عن خدمته بالهناء، إلى إخلاص الدّعاء، بأن يعرّفه الله تعالى يمنها وبركتها، ويريه إقبالها وسعادتها، ويقرن تحوّله إليها بأيمن طائر، وأبرك طالع، فإنّ للحركات أوقاتاً محمودة ومذمومة؛ فإذا اعتنى الله تعالى بعبدٍ من عبيده، وفرض له نصيباً من تأييده، وفّقه للحركة في الزّمن السعيد، والوقت الحميد، لتكون مصايره مشاكلةً لمباديه، وأعجازه مشابهةً لهواديه، والله تعالى يجعل بابها محطّاً للقصّاد، ومناخاً للوفّاد، ومزاراً للعفاة، وملاذاً للعناة ويصل بها حبله، وينشي بها طفله، ويضاعف باستيطانها أنسه، ويسر بتبوّئها نفسه، إن شاء الله تعالى.
أبو الفرج الببغاء: أسعد المنازل وأشرف المواطن ما استوطنه أيّده الله وتبوّاه، وتخيّره لنفسه وارتضاه، فغدا بشخصه وطن الإقبال، وبفائض كرمه حرم الآمال، وبشرفه للسّؤدد معقلاً، وبنبله للرّياسة منزلاً، فعرّفه الله يمن هذه الدار المعمورة بحلول البركات، المحفوفة بتناصر السّعادات، وجعلها وكلّ ربع يقطنه، ومحلٍّ يسكنه، مبشّراً بامتداد بقائه، وآهلاً بالزّيادة في نعمائه.
وله في مثله: كلّ وطن يحلّه- أيّده الله- ويقطنه، ومحلٍّ يتخيّره ويسكنه، مقصودٌ بالشّكر والثناء، آهلٌ بالحمد والدّعاء، لا يتخطاه متوارد الآمال، ولا تنقطع عنه موادّ الإقبال، ولذلك صار هذا المنزل السعيد من فضائل الأرض ومحاسنها، ونجع الآمال ومعادنها، فعرّفه الله يمنه وبركته، وإقباله وسعادته، وقرن انتقاله إليه بأسبغ نعمة، وأكمل سلامة وأبسط قدرة وأعلى رتبة.
وله في مثله: عرّفه الله من بركة هذا المنزل المورود، والفناء المقصود، ما يوفي على سالف ما أولاه من تكامل البركات، وتناصر السّعادات، وجعل مستقرّه فيه مقروناً بنموّ الحال، وتتابع الإقبال، في أفسح المدد أطولها، وأنجح المطالب وأفضلها، وعمر أوطان المكارم بإقباله، وعضّد الأمانيّ باتّساع نعمائه.
أجوبة التهنئة بقرب المزار، ونزول المنازل المستجدّة.
قال في موادّ البيان: أجوبة هذه الرّقاع يجب أن تبنى على الاعتداد للمهنّي بتعهّده، والشكر له على تودّده، والابتهاج بهنائه، والتبرّك بدعائه، وأن المستجدّ غير مباينٍ لمنزله، ولا خارجٍ عن أحكام محله، وأنّ تمام بركته، أن يؤنس فيه بزيارته، وما يشابه هذا.
الضرب الحادي عشر: نوادر التهاني:
وهي خمسة أصناف:
الصنف الأوّل: تهنئة الذمّي بإسلامه.
فمن ذلك ما رواه أبو الحسين بن سعد في ترسّله، وهو:
وما زالت حالك ممثّلةً لنا جميل ما وهب الله فيك حتّى كأنّك لم تزل بالإسلام موسوماً، وإن كنت على غيره مقيماً، وقد كنّا مؤمّلين لما صرت إليه، ومشفقين لك مما كنت عليه، حتّى إذا كاد إشفاقنا يستعلي على رجائنا، أتت السعادة فيك بما لم تزل الأنفس تعد منك، ونسأل الله الذي نوّر لك في رأيك، وأضاء لك سبيل رشدك، أن يؤهّلك لصالح الأعمال، وأن يؤتيك في الدنيا حسنةً ويقيك عذاب النار.
ومن ذلك، من كلام أبي العيناء: ولتهنئتك نعمة الله عليك في أخوّة المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، والحمد لله الذي فوّز قدحك وأعلى كعبك، وأنقذ من النار شلوك، وخلّصك من لبس الشّك، وحيرة الشّرك، فأصبحت قد استبدلت بالأديار المساجد، وبالآحاد الجمع، وبقبلة الشام البيت الحرام، وبتحريف الإنجيل، صحّة التنزيل، وبأوثان المشركين، قبلة الموحّدين، وبحكم الأسقفّ رأس الملحدين حكم أمير المؤمنين وسيّد المرسلين، فهنأك الله ما أنعم به عليك، وأحسن فيه إليك، وذكّرك شكره، وزادك بالشّكر من فضله.
أجوبة التهنئة بإسلام ذمّي.
قال في موادّ البيان: أجوبة هذه الرّقاع يجب أن تكون مبنيّة على شكر المهنّأ للمهنّيء؛ واعترافه بنعمة الله تعالى عنده، وابتهاجه بممازجته في الدّين، الذي جعل الله أهله إخواناً متصافين، وخلاّناً متوافين، ومنّ عليهم به، وبإماطة الحسائف من قلوبهم، ونحو هذا.
الصنف الثاني: التهنئة بالختان وخروج اللّحية.
فمن ذلك تهنئةٌ لأميرٍ بختان ولديه: فمن خصائص ما حباه الله بعد الذي قدّم له في نفسه، نفّس الله مدّتها، ووسّع مهلتها، وأفنى الأعداد دون فنائها، والأعمار دون تصرّمها وانتهائها، من الفضائل المشهورة، والمحاسن المذكورة، والمناقب المأثورة، وأقسام الفضل الذي ينتهي دون تصرّم؟ منزله وصف الواصف إذا أفرط، وينتهي دون أيسرها أمل الآمل إذا اشتطّ ما وهب الله له من أولادٍ سادةٍ فضّلهم في الأخلاق والصّور، وأكملهم في الأجساد والمرر، وقدّمهم في العقول والأفهام، والقرائح والألباب، ولم يجعل للمعيب فيهم سيمة، ولا للإناث بينهم شركة، حتّى يكون مسلّماً لهم قصب العلا والمفاخر، وصدور الأسرّة والمنابر، من غير منازع، ولا مقارع، ولا مساهم، ولا مقاسم، وزادهم من النّماء في النّشء والبركة واليمن بما يؤذن الحاضر منه بالغابر، ويدلّ البادي على الآخر، وعداً من الله تعالى ذكره لهم بأوفى السعادات، وأكمل الخيرات وأعلى الدرجات، أرجو أن يجعل الله النّجح قرينه، والنجاة ذريعته، وما أولاه فيهم في هذه الحال الحادثة التي يعدق الله بها أداء الفريضة، وكمال الشريعة، ويقع التطيّر بالختان، الذي جعله الله من شروط الإيمان، وفرضه على جميع الأديان، من السّلامة على عظم الخطر، وشدّة الغرر، في إمضاء الحديد على أعضاءٍ ناعمة، وإيصال الألم إلى قلوبٍ وادعة، لم تقارع نصباً، ولم تعان وصباً، واجتمع فيه إلى رقّة الصّبا، وضعف الأسر والقوى، اعتياد الرحمة، ومخالفة الترّفه والتنقّل بين الشهوات، على أن كلّ واحد من الأميرين شهد المعركة أعزل حاسراً، وباشر الحرب مغرّراً مخاطراً، فثبت لوقع السّلاح، وصبر على ألم الجراح، وأبلى بلاء الفارس المدجّج، والكميّة المقنّع، ثم خرج خروج شبل الليث، وفرخ العقاب، كالقدح المعلّى والشّهاب الساطع، والنّجم الثاقب، وكان فلان أكثرهما تغيّراً في وجه قرنه، وسطوةً على منازله، وكلٌّ قد حصّل فوق الخصل، وحوى فضيلة السّبق، واسحقّ اسم البأس والشّدة، وحلية البسالة والنّجدة.
ومن ذلك ما أورده أبو الحسين بن سعد في كتابه:
الحمد لله الذي كساك باللّحية حلّة الوقار، وردّاك رداء ذي السّمت من الأبرار والأخيار، وصانك عن ميسم الصّبا، ومطامع أهل الهوى، بما جلّلك من اللحية البهيّة، وألبسك من لباس ذوي اللّبّ والرّويّة، وألحقك في متصرّفاته بمن يستقلّ بنفسه ساعياً، ويستغني عمّن صحبه حافظاً، وجعل ما جمّل من صورتك، وكمّل من أداتك وآلتك، قرنا ًلمن جاء بسدادك، وجارياً مجرى كملة الرجال على الجملة، إلى أن يكشف الله مخابرك بالمحنة، وتعطى المهابة من الدّاعر العادي، ومن السّبع الضاري، ولو كان عارياً من هذه الكسوة الشريفة، والحلية الملحوظة، لسيقت إلى الازدراء بالأعين، والاستصغار بالقلوب والألسن، أصناف الحيوان، من البهيمة والإنسان، ثم لا يحسّ من نفسه قوّةً على الدّفع عنها، ولا من صرعته ثباتاً على يدها فيه. وتلك نعمةٌ من الله جل وعزّ حباك بمرتبتها في جمال غشاك، وكمالٍ أتاك، فليصدّق بها اعترافك وشكرك، وليحسن ثناؤك ونشرك، قضاءً لحق الله عليك، واستدراراً في المزيد من إحسانه إليك.
الصنف الثالث: التهنئة بالمرض:
أبو الفرج الببغاء: في ذكر الله سيدي بهذا العارض- أماطه الله وصرفه، وجعل صحة الأبد خلفه- ما دلّ على ملاحظته إيّاه بالعناية، إيقاظاً له من سنة الغفلة، إذ كان تعالى لا يذكّر بطروق الآلام، وتنبيه العظات، غير الصّفوة من عباده، الخيرة من أوليائه، فهنأه الله الفوز بأجر ما يعانيه، وحمل عنه بألطافه ثقل ما هو فيه، وأعقب ما اختصّه من ذخائر المثوبة والأجر بعافيةٍ تقتضيه، ولا سلب الدنيا جمال بقائه، ولا نقل ظلّه عن كافّة خدمه وأوليائه.
الصنف الرابع: التهنئة بالصّرف عن الولاية.
أبو الفرج الببغاء: من حلّ محلّه- أيّده الله تعالى- من رتب الرّياسة والنّبل، كان معظّماً في حالتي الولاية والعزل، لا يقدح في قدره تغيّر الأحوال، ولا ينقله عن موضعه من الفضل تنقّل الأعمال، إذ كان استيحاشها للفائت من بركات نظره، بحسب أنسها كان بما أفادته من محمود أثره، فهنأه الله نعمة الكفاية، وأوزعه شكر ما احتازه من النزاهة والصيانة، ولا أخلاه من التوفيق في سائر متصرّفاته، والخيرة الضامنة لعواقب إرادته.
وله في مثله: لو كان لمستحدث الأعمال ومستجدّ الولايات زيادةٌ على ما اختصّك به من كمال الفضل، ومأثور النّبل، لحاذرنا انتقال ذلك بانتقال ما كنت تتولاّه بمحمود كفايتك، وتحوطه بنواظر نزاهتك وصيانتك، غير أنّ الله تعالى جعلك بالفضل متقمّصاً، وبالمحاحد متخصصاً، فالأسف فيما تنظر فيه عليك لا منك، والفائدة فيما تتقلّده بك لا لك، ولذلك كنت بالصّرف مهنّأ مسروراً، كما كنت في الولاية محموداً مشكوراً، فلا أخلاك الله من تواصل آلائه، وتظاهر نعمائه، في سائر ما تبرمه وتمضيه، وتعتمده وترتئيه.
أبو الحسين بن سعد؛ عمّن تولّى عملاً إلى من صرف عنه: قد قلّدت العمل بناحيتك، فهنأك الله تجديد ولايتك، وأنفذت خليفتي لخلافتك، فلا تخليه من تبصيرك وهدايتك، إلى أن يمنّ الله بزيارتك.
تهنئة بصرف عن ولاية:
لو كانت رياسة سيّدي مجنيّةً من عروش الولايات، وسيادته خارجةً عن سانح التصرّفات، لأشفق أولياؤه من زوالهما بمزايلتهما، وحذروا من انتقالهما بنقلهما، لكن ما وسم به من الكمال، وعلا به من رتب الجلال، موجودٌ في غريزته وجود الفرند في السيف المأثور، واللألاء في النور، وإذا تصرّف، أورد الله الرعيّة من مشارعها نطافاً، وأسبغ عليهم من ظلّها عطافاً، وإذا انصرف فخيرٌ مسبلٌ تقلّص، وعيشٌ رائعٌ تنغّص، والأسف على العمل السليب من حلل سياسته الفاضلة، العاطل من حلى سيرته العادلة، ولهذا أصبح- أيّده الله- بالعزل مبتهجاً مسروراً، كما كان في الولاية محموداً مشكوراً، وانطلقت ألسنة أوليائه، في هنائه، بما وهبه الله من الرّفاهية والدّعة، وحطّه عنه من الأثقال المقلقة، ولا سيّما وقد علم الخاصّ والعامّ أنّ العمال إذا ردّت إليه، وعوّل فيها عليه، تسلّم المودع وديعته، والناشد ضالّته، وإذا عدل فيها إلى غيره تنأولها تنأول الغاصب، واستولى عليها استيلاء السّالب، فلا تزال نازعةً إلى ربّها، متطلّعةً إلى خطبها، حتّى تعود إلى محلّها، وترجع إلى نصلها، والله تعالى أسأل أن يقضي لمولانا ببلوغ الأوطار، إن شاء الله تعالى.
أجوبة التهنئة بالصرف عن الولاية والخدمة.
قال في موادّ البيان: يجب أن تكون أجوبتها مبنيّة على شكر الاهتمام والاعتداد بالمشاركة في الأحوال، مع وقوع ما ورد من الخطاب الموقع اللطيف، وما ينتظم في هذا السلك.
جواب من ورد عليه كتابٌ من ولي مكانه في معنى ذلك.
فمن ذلك: ما انصرفت عنّي نعمةٌ أعديت إليك، ولا خلوت من كرامةٍ اشتملت عليك، وإنّي لأجد صرفي بك ولايةً ثانية، وحلّة من الوزر واقية، لما آمله بمكانك من حميد العاقبة وحسن الخاتمة.
الصنف الخامس: تهنئة من تزوجت أمّه بزواجها.
قد تقدّم في أوّل المقالة الأولى في حكاية حائك الكلام مع عمرو بن مسعدة وزير المأمون، أنه قال: يكتب إليه: أما بعد، فإنّ الأمور تجري على خلاف محابّ المخلوقين والله يختار لعباده، فخار الله لك في قبضها إليه، فإن القبور أكرم الأكفاء والسلام.
أبو الفرج الببغاء: وقد أمره سيف الدولة بن حمدان بالكتابة في معنى ذلك امتحاناً له: من سلك إليك- أعزّك الله- سبيل الانبساط، لم يستوعر مسلكاً من المخاطبة فيما يحسن الانقباض عن ذكر مثله.
واتّصل بي ما كان من خبر الواجبة الحقّ عليك، المنسوبة بعد نسبتك إليها إليك- وفّر الله صيانتها- في اختيارها ما لولا أنّ الأنفس تتناكره، وشرع المروءة يحظره، لكنت في مثله بالرضا أولى، وبالاعتداد بما جدّده الله في صيانتها أحرى، فلا يسخطنّك من ذلك ما رضيه وجوب الشّرع، وحسّنه أدب الدّيانة، ومباح الله أحقّ أن يتّبع، وإيّاك أن تكون ممن لمّا عدم اختياره تسخّط اختيار القدر له، والسلام.
النوع الثاني من مقاصد المكاتبات: التّعازي:
قال في موادّ البيان: المكاتبة في التعزية بالأحداث العارضة في هذه الدنيا واسعة المجال؛ لما تتضمّنه من الإرشاد إلى الصّبر، والتسليم إلى الله جلّت قدرته، وتسلية المعزّى عما يسلبه بمشاركة السابقين فيه، ووعده بحسن العوض في الجزاء عنه، إلى غير ذلك مما ينتظم في هذا المعنى.
قال: والكاتب إذا كان جيّد الغريزة حسن التأتّي فيها، بلغ المراد.
ثم قال: وحكمها حكم التّهاني من الرئيس إلى المرؤوس، ومن المرؤوس إلى الرئيس، ومن النظير إلى النظير.
ثم التعزية على أضرب:
الضرب الأوّل: التعزية بالابن:
أبلغ ما كتب به في ذلك ما كتب به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلى معاذ بن جبل، معزّياً بابنٍ له مات، فيما ذكره أبو الحسين بن سعد في ترسّله، وأبو جعفر النّحاس في صناعة الكتّاب، وهو: من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل: سلامٌ عليك، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو.
أما بعد، فعظّم الله لك الأجر، وألهمك الصّبر، ورزقنا وإيّاك الشّكر، ثم إنّ أنفسنا وأهلينا وموالينا من مواهب الله السنيّة، وعوارفه المستودعة، تمتّع بها إلى أجلٍ معدود، وتقبض لوقتٍ معلوم، ثم افترض علينا الشّكر إذا أعطى، والصبر إذا ابتلى، وكان ابنك من مواهب الله الهنيّة، وعوارفه المستودعة، متّعك به في غبطةٍ وسرور، وقبضه منك بأجرٍ كثير: الصلاة والرحمة والهدى إن صبرت واحتسبت، فلا تجمعنّ عليك يا معاذ خصلتين: أن يحبط جزعك صبرك فتندم على ما فاتك، فلو قدمت على ثواب مصيبتك قد أطعت ربّك وتنجّزت موعده، عرفت أنّ المصيبة قد قصرت عنه.
واعلم أنّ الجزع لا يردّ ميّتاً، ولا يدفع حزناً، فأحسن الجزاء وتنجّز الموعود، وليذهب أسفك ما هو نازلٌ بك فكأن قد.
من كلام المتأخرين:
تعزيةٌ بولد، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهي بعد الألقاب.
وأحسن عزاءه بأعزّ فقيد، وأحبّ حبيبٍ ووليد، وعوّض بجميل الصبر جوانحه التي سئلت عن الأسى فقالت: ثابتٌ ويزيد.
صدرت هذه المفاوضة تهدي إليه سلاماً يعزّ عليه أن يتبع بالتعزية، وثناءً يشقّ عليه أن يطارح حمائم سجعه المطربة بحمائم الشّجو المبكية المنكية، وتوّضح لعلمه ورود مكاتبته المؤلمة، فوقفنا عليها إلا أنّ الدمعة ما وقفت، وخواطر الإشفاق عليه وعلى من عنده طفت حرقها وما انطفت، وعلمنا ما شرحه ولم يشرح الصّدر على العادة من وفاة الولد فلان، سقى الله عهده ولحده، ونضّر وجهه وتغمّد بالرضوان خاله وخدّه، وما بقي إلاّ التمسّك بأسباب الصبر، والتفويض إلى من له الأمر، والدّنيا طريقٌ والآخرة دارٌ ودهليزها القبر، وللمرء من تثبّته وازع، والاجتماع بالأحبّة الراحلين واقع، أن لم يصيروا إلينا صرنا إليهم، وإن لم يقدموا في الدار الفانية علينا قدمنا في الدار الباقية عليهم، نسأل الله تعالى أن يجمعنا في مستقرّ رحمته، ويحضرنا مع الأطفال أو مع المتطفّلين ولائم جنّته، والله تعالى يدارك بالصبر الجميل قلبه، ولا يجمع عليه فقد الثواب وفقد الأحبّة.
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: رزقه الله تعالى ثباتاً على رزيّته وصبراً، وجعل له مع كلّ عسرٍ يسراً، وأبقاه مفدّىً بالأنفس والنّفائس، وكان له أعظم حافظٍ من نوب الدهر وأجلّ حارس.
المملوك ينهي علمه بهذه النازلة التي فتّتت القلوب والأكباد، وكادت أن تفرّق بين الأرواح والأجساد، وأزالت ذخائر العيون، وابتذلت من المدامع كلّ مصون، وأذابت المهج تحرّقاً وتلهّباً، وجعلت كلّ قلب في ناري الأسى والأسف متقّلباً، وهي وفاة ولده الذي صغر سنّه، وتزايد لفقده همّ المملوك وحزنه: [طويل]
ونجلك لا يبكى على قدر سنّه ** ولكن على قدر المخيلة والأصل

وكان الأمل يحدّث بأنه يشدّ للمولى أزره، ويشرح ببرّه صدره، ويؤصّل مجده، ويبقي الذكر الجميل بعده، ففقد من بين أترابه، وذوى عندما أينع غصن شبابه، وغيّب منظره الوسيم في لحده وترابه، وسيّدنا يعلم أنّ الموت منهل لابدّ من ورده، وابن آدم زرع لابدّ من حصده، وأنّ المنية تشمل الصغير والكبير، والجليل والحقير، والغنيّ والفقير، فينبغي له استعمال صبره، والاستبشار بمضاعفة أجره، والله يمتّعه بأهله وطول عمره.
وله: [كامل]
لهفي وما لهفي عليك بنافع! ** كلاّ ولا وجدي ولا حرقاتي

يا من قضى فقضى سروري بعده ** وتحدّرت أسفاً له عبراتي

عقد التجلّد حلّها فرط الأسى ** والقلب موقوفٌ على الحسرات

لو كنت ممّن يشترى أو يفتدى ** لفديت بالأرواح والمهجات

كنت المعدّ لنصرتي في شدّتي ** فقضى الحمام بفرقةٍ وشتات

والله لا أنسيت ندبك والبكا ** أبداً مدى الأنفاس واللّحظات

ويسوءني أن عشت بعدك ساعة ** أسفاً لفقدك ميّتاً وحياتي

أعظم الله أجر مولانا ومنحه صبراً جميلاً، وأجراً جزيلاً، وثناءً عريض الشقّة لثباته على هذه الفادحة طويلاً، وجعل هذه الرزيّة خاتمة الرّزايا، وممحّصة جميع الذنوب والخطايا، ولا فجعه بعدها في قرّة عين، ولا أورد محبوباً شغف به قلبه الكريم منهل الحمام ولا سقاه كأس الحين.
المملوك يقبّل البساط الذي ما فتيء لنشر المعدلة مبسوطاً، وكلّ أمل ببرّه منوطاً.
وينهي إلى العلم الشريف علمه بهذه المصيبة التي أصابت فؤاد كلّ محبٍّ فأصمته، وطرقت سمع كلّ وليّ فأصمّته، وولجت كلّ قلبٍ فأحرقته صبابةً وحزناً، ومرّت على الصّلد فصدّعته ولو كان حزناً، وهي وفاة فلان سقى الله عهده، وأسكن الرحمة ثراه ولحده، فشّق أسفاً على المفقود جيب كلّ جنان وطوى الأكباد على جراحها، وحسّر الأجساد على أرواحها: [طويل]
وما هي إلاّ نكبةٌ أيّ نكبةٍ ** أهاجت سعيراً في الحشا يتلهّب!

فلا جسم إلاّ بالتحرّق ذائب ** زاد عذّالي العتاب وأطنبوا

ولهذا أصدر المملوك هذه المطالعة يدعو لمولانا فيها ويعزّيه، ويندب فقيده بألسنة الأقلام ويبكيه، ويبشّره بما وعد الله الصابرين على مثل هذه الرّزية ويسّليه، فيا لها نازلةٌ فجعت بغصنٍ رطيب، وقمرٍ يرفل من الشّبيبة في ثوبٍ قشيب، وصدعت القلوب بفقد حبيبٍ وأيّ حبيب: [سريع]
والموت نقّادٌ على كفّه ** جواهر يختار منها الجياد

وبعد، فللمملوك في هذه الرزيّة مشاركة كادت تباين بين روحه والجسد، وهو المصيب لهذه المصيبة ما تجده الوالهة على فقد الولد، لا يستقرّ به قرار، ولا ينجيه من يد الحزن فرار، دأبه البكاء والعويل، وحزنه العريض الطّويل، فواضعفاه عن حمل هذا المصاب، وواأسفاه على مسافرٍلا ينتظر له قدومٌ ولا إياب، وواعجباه لضدّين اجتمعا لوالده الكريم الجناب: [طويل]
تخون المنايا عهده في سليله ** وتنصره بين الفوارس والرّجل

وعلى كلّ حالٍ فهو أجدر من استعان على هذه الحادثة بصبره، وشرح لما قد قدّر فسيح صدره، وشكر الله على حلو القضاء ومرّه، فما كان إلاّ أحد العمرين فقد فخلفه عمر، وثاني القمرين أفل فقام مقامه هلالٌ قدم من سفر، وفي بقاء المولى ما يوجب التسليم للقدر والقضاء، والشكر لله تعالى في حالتي الشّدّة والرّخاء، جعله الله في حرز لا يزال حريزاً مكيناً، وحصن على ممرّ الأيام حصيناً.
وله: أعظم الله أجره، وأطال عمره، وشرح صدره، وأجزل صبره، وسخّر له دهره.
المملوك ينهي أنه اتّصل به خبرٌ صدع قلبه، وسرق رقاده ولبّه، وضاعف أسفه وكربه، وهو موت فلان تغمّده الله برحمته، وأهمى عليه سحائب مغفرته، وعامله بلطفه، وجعل الخيرة له في حتفه، فشّق ذلك قلبه وعظم عليه، وقارب لشديد حزنه أن يصل إلى ما وصل المرحوم إليه، لكنّه ثبّت نفسه وثبّطها، ورفع يده بالدعاء للمولى وبسطها، وسأل الله أن يطيل بقاءه، ويحسن عزاءه، ويحرسه من أزمات الزمان، فإنه إذا سلم كان الناس في السّلامة والأمان، ويجعله عن كل فائتٍ عوضاً، كما أصاره جوهراً وجعل غيره من الأنام عرضاً، ولقد جلّت هذه الرزيّة على كلّ جناب، ودخل حزنها إلى كلّ قلبٍ من كلّ باب، جعل الله أجره للمولى من أعظم الذّخائر، ومنحه الحياة الأبديّة التي لا تنتهي إلى أمدٍ ولا آخر، إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني: التعزية بالبنت:
من كلام المتقدّمين:
ابن أبي الخصال المغربي: الشيخ فلان عزّاه الله على احتسابه، وجعل الثواب المرتقب أفضل اقتنائه واكتسابه. معزّيه عن فلذة كبده، ومساهمه في أرقه وسهده، والفاتّ في عضد صبره الجميل وجلده، فلان: فإنّي كتبته- كتب الله لكم خيراً يذهب جزعكم، وحسّن منجاكم بالتفدّي الجميل ومنزعكم- عندما وصلني وفاة ابنتكم المرحومة نفعها الله بإيمانها، وتلقّاها بروح الجنّة وريحانها، وهي: - أعزّك الله- وإن آلمك فقدها، وأوجعك أن استأثر بها لحدها، فليعزّك عنها مصابنا بنبينا عليه السلام، وعلمك بأنّا جميعاً بمدرجة الحمام، أفتجد على الأرض خالداً، وقديماً ثكلنا ولداً نجيباً ووالداً، فمن خلق للفناء، واختلس بمرّ الساعات والآن اء، جديرٌ أن يتّعظ بنفسه، ولا يحزن لذهاب من ذهب من ذوي أنسه، فاحمد الله عزّ وجلّ إذ رجّحت ميزانك، وضمنت لك يوم المعاد جنابك، والله عزّ وجلّ يرزقنا احتساباً جميلاً وصبراً، ويؤنسك وقد اختار لك الصّهر قبراّ، ويعظّم لك ثواباً جزيلاً على مصابك وأجراً، ويعمّ فقيدتك بالرّحمى، ويسكب على جدثها مزنها الأوكف الأهمى، ويؤويك إلى كنفه الأعظم الأحمى، بمنّه ورحمته، لا ربّ غيره، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
الضرب الثالث: التعزية بالأب:
من كلام المتقدمين:
ابن أبي الخصال معزّياً بوزير: يا سيّدي وواحدي، ومحلّ الابن المبرور، والأخ المشكور، عندي، أعزّك الله بالتقوى، ورضّاك بما قضى، وأمدّك بالنّعمى، وشملك بالحسنى.
كتبته- أعزك الله- وقد وصل كتابك الكريم بما نفذ به القدر الذي هو في العباد حتم، وله في كلّ عنق ختم في الوزير الفقيه الشهيد أبيك كان، رحمه الله وأكرم مثواه، وجعل الحسنى التي أعدها لأوليائه مقرّه ومأواه، فأسفت كلّ الأسف لفقدانه، وقد كان عين زمانه، وعمدة إخوانه، تغمّده الله بغفرانه، ونقله إلى رضوانه، وتلك- أعزك الله- غاية الأحياء، وسبيل الأعداء والأحبّاء، كان على ربّنا- جلّ وعلا- حتماً مقضّياً، ووعداً مأتياً، والأسوة- أعزك الله- في غمرة الفضفاض، وبرّه الفيّاض، وأنه ختم له بالخير والانقباض، وكان آخر ذلك الحسب القديم، والجيل الكريم، وقد أمرك الخير فافعل ما أمرت به وكن كما ظنّك وقدّرك وتركك، وإنك بفضل الله تسدّ مسدّه، وتبلغ في كلّ فضيلةٍ حضره السابق وشدّه، وتعدّ للأيام في الجدّ والاعتزام ما أعدّه، وإخوتك- أعزك الله- لك أظهارٌ وأعضاد، وفيهم غزو مضادّ، فاشتمل عليهم، وارفق بهم؛ فإنهم ينزلونك منزلة أبيهم، وتجد أخلاقه وعونه فيهم.
وأما ما أعتقده من تكريمك، وأراه من تفضيلك وتقديمك، فشيء تشهد به نفسك، ويدركه يقينك وحدسك، أشدّ به اعتناء، وأجمل له استواء، وأوفى عنك ردءاً وغناء، جعلنا الله من المتحابّين في خلاله، والمتقلّبين في ظلاله، وأمنّنا من الزمان واختلاف أحواله، بمنّه والسلام.
الضرب الرابع: التعزية بالأم:
أبو محمد بن عبد البر المغربي: [منسرح]
ما مات من أنت بعده خلفٌ ** والكلّ في البعض غير ممتنع

كتب عبده القنّ، من الأسى لأجله بعض مايجنّ، المنطوي على قلبٍ تطمئن القلوب سلوّاً ولا يطمئن، فلانٌ: بعد وصول كتابه الكريم بصدعٍ يصمي القلوب، ويقدّ أقوياء الجيوب، ويترك الأحباب مصرّعين على الجنوب، فوقف العبد عليه مترقرق المدامع، منحرق الأضالع، رائياً سامعاً سجا الأبصار وأسى المسامع، فيا أسفي لخطب ضعضع ركن الجدّ وكان وثيقاً، وصوّح روض الفضل واكن وريقاً، ونغّص حسن الصبر ولم يزل صديقاً، وترك العبد خليقاً بهذا القول ومثله معه حقيقاً، فآه لدين ومروءة فقدا في قرن، وعلى صونٍ وعفاف أدرجا في كفن، وحصانٍ رزانٍ لا تعرف بوصمة ولا تزنّ؛ لقد أصمّ بها الناعي وإن كان أسمع، وأرقّ ما شاء الفؤاد وأراق المدمع، ولم يبق قلباً للصبر إلا صدعه، ولا أنفاً للسّلوّ إلا جدعه، ولا باباً للتعزّي إلا أرتجه، ولا عقيماً للتأسف إلا أنتجه، ولو قبل في الموت فداً وصحّ أن يؤخذ فيه فداءٌ لما خلص إليكم ولا ألمّ، ولا عداكم في صروف المنايا المخيفة سلم، لكن أبى الله إلا أن تعمّ الحرقة، وتستولي على الوقت الفرقة.
الضرب الخامس: التعزية بالأخ:
أبو محمد بن عبد البر: وكتبت والأنفس مرتمضة، والعين غير مغتمضة، والأنفاس تتصعّد، والأحزان تتأكّد، أسفاً للمصاب الذي عمّ وغمّ، وأسمع نعيه فأصمّ، وقال للفرح: كفّ من عنانك، وللتّرح انتظر لأوانك، بوفاة الفرد الذي في رأسه نور، وسداد الآراء المختلفة وسداد الثّغور، والفذّ الذي شهد الرجال بفضله، وعقم النساء فما تجيء بمثله، أبي فلان صنوكم، السابق الذي لا يجارى، والشارق الذي لا يسارى، والغيث الذي عمّ المنيل والمستنيل، والليث الذي ورد الفرات زئيره والنّيل، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون! تسليماً للقدر وإن ساء، وشمل المرؤوسين والرّؤساء، فيا له مصاباً ترك كلّ رأس أميماً، وأودع صميم كلّ فؤاد ثكلاً صميماً، لقد أنصل السّمر اللّهاذم، وأغمد البيض الصّوارم، وعطّل الكتائب والمقانب، وأوحش المفاوز والسّباسب، ولم يبق مشيد علاً إلا هدّه، ولا مديد ثناءٍ إلا صدّه.
ولم لا وهو الشخص يموت بموته بشر كثير، ويبكيه قلمٌ وحسام ومنيرٌ وسرير؟ وعند الله نحتسبه جميعاً، ونوسعه بمحض الصّفاء وصفو الثناء توديعاً وتشييعاً، ونفارقه فراق الصّدر خلده، والمصاب جلده، فوا أسفي لرزئه ما أفظعه موقعاً! ووا حربا ليومه ما أظلمه مطلعاً! ووا حزنا لنعيه ما أشنعه مرأًى ومسمعا!!! فلئن جرت الدموع له دما، وأضمرت الضلوع به مضطرما، لما أدّت حقّه ولا كربت، ولا دانت بعض الواجب فيه ولا اقتربت، ولولا أنّ المنيّة منهلٌ لا يحلأّ وارده، ومعلم يهدي إليه على أهدى سمتٍ مباعده، لم يبق في أنسٍ مطمع، ولا لحزن مستدفع، ولكان الثاكل غير ما ترى وتسمع، وما أنتم أيّها الشيخ المكرّم ممن ينبّه على ذخر من العمل الصالح، يكتسبه، وصبرٍ في الرّزء الفادح، يحتسبه، فصبراً فالمنون غاية الممسين والمصبحين، والنبأ الذي يعلم ذوقاً ولو بعد حين؛ وهو تعالى المسؤول أن يرقع بمكانكم هذا الخرق المتّسع، ويصل بجنابكم ذلك الشّمل المنصدع.
ابن أبي الخصال: الشيخ فلانٌ أبقاه الله يتلقّى الأرزاء يحسن الصبر، وجميل الاحتساب، ويتقاضى بالتعزي مرتقب الأجر، ومنتظر الثّواب، معزّيه في أخيه الكريم علينا، العظيم مصابه الفادح لدينا، فلانٌ: فإني كتبته- كتب الله لكم صبراً تجدون ذخره، وأوجب لكم عزاء تحمدون يوم القيامة شأنه وأمره- عندما وصل من وفاة الشيخ أخيكم رحمه الله تعالى ما كدّر العيش ونغّصه، وجشّم جرع الحمام المقطوعة وغصصه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!! استسلاماً لقدره وقضائه، وأخذاً فيما يدني ويقرّب من إرضائه، وما نحن إلا بنو الأموات الذين درجوا، وسنخرج من الدّنيا كما قبلنا خرجوا، جعلنا الله جميعاً ممن ينظر لمعاده، ويجعل التقوى خير ما أوعاه بجداده، وسلك بنا نهج هدايته وطريق رشاده.
وهو جلّ وعلا يجزل لكم على مصابكم ثواباً عميماً موفوراً، ويجعل فقيدكم بين أيديكم في يوم القيامة نوراً، ويلقّيه في دار الفردوس ملكاً كبيراً وحبوراً، ولولا كذا لسرت إليكم لأعزيكم شفاها، وأحدّثكم عن ضلوع أحرق هذا المصاب حشاها، لكن امتثال أمره المطاع، حمل على االبدار إلى ما أمر به والإسراع، والله عزّ وجل يديم لنا بكم الإمتاع، بمنّه وكرمه، والسلام.
الضرب السادس: التعزية بالزوجة:
من كلام المتقدمين:
أبو محمد بن عبد البر: وقد تقرّر عند ذوي الألباب، وثبت ثبوتاً لا يعلّل بالارتياب، أنّ الدنيا قنطرةٌ دائرة، ومعبرة إلى الآخرة، وأنّ ساكنها وإن طال عمره، وطار في الخافقين أمره، لديغ سمّها، وصريع سهمها، فما تضحك إلا لتبكي، ولا تؤنس إلا لتنكي، وقد نفذ القدر الذي ماله ردّ، ولا منه بدّ، بوفاة فلانة ألحقها الله رضوانه، وأسكنها بفضله المرجوّ جنانه، فإنّأ لله وإنا إليه راجعون!! تأسيّاً بالسّلف الصالح، وتسلّياً عن ماء الدمع السّافح، وزند القلب القادح.
وعند الله نحتسبها عقيلةً معدومة المثيل، مفقودة الدّين والعفّة في هذا الجيل، متحلّيةً من دعاء الفقراء، وثناء الصّلحاء، بالغرّة الشادخة والتحجيل، لقد ذهب لذهابها الرّفق والحنان، وعدم لعدمها الشّم البرّة والأخلاق الحسان، وإنّ فقدها لخرق لا يرقع، وغلّة لا تنقع، وخطبٌ لا يزال الدّهر يتذكّر فيصدع، ولولا العلم بأن اللّحاق بها أمرٌ كائنٌ، وأن المخلّف في الدّنيا لا محالة عنها بائن، وأن التنقّل للآخرة ما لا ننفكّ نسمعه ونعاين، لما بقيت صبابة دمع إلا ارفضّت، ولا دعامة صبر إلا انقضّت، ولكان الحزن غير ما تسمع وترى، والوجد فوق ما يجري وجرى، لكن لا معنى لحزن لما يقع فيه الاشتراك، ولا وجه لأسف على ما لا يصحّ فيه الاستدراك.
وما أنتم بحمد الله ممن يذكّر بما هو فيه أذكر، ولا ممن ينبّه على ما هو بالتنبيه والمنزع، وأحرى أن يكون الثواب جزيلاً، والجزاء حسناً جميلاً، والله يبقيكم أتمّ البقاء، ويرّقيكم أتمّ الارتقاء.
ابن أبي الخصال: الشيخ الأجلّ فلان آنس الله وحشته، وجددّ على فقيدته رحمته.
معزّيه عن أهله الهالكة وسكنه، ومساهمه بأوجب حزنٍ في القلوب وأسكنه.
فلان: فإنا كتبناه عن دموع تصوب وتنسرب، وضلوع تخفق من وجيبها وتضطرب، وأنس يشرد منا ويحتجب، بموت فلانة رحمها الله التي أودعت في جوانحنا من الثّكل ما أودعت، ورضّت أكبادنا بمصابها وصدعت، عزّانا الله جميعاً فيها، وأولاها نعيماً في الفردوس الأعلى وترفيها، وأعقبنا من الوحشة أنساً، وعمر بالرّحمى جدثاّ مباركاً ورمساً، وجعلنا كلاًّ ممن يردع عن الانحطاط إلى الدنيا نفساً، بمنّه وكرمه.
من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: لمّ علم مملوك المجلس السامي أطال الله بقاءه، وأعظم أجره وأحسن عزاءه، وفاة السيدة المرحومة سقى الله عهدها عهداً يبلّ الثّرى، وجعل الرحمة لمن نزلت به لها القرى، تألّم لفقدها غاية الألم، ووجد حرقةً كسته ثوبي ضنىً وسقم، وحزناً لا يعبّر عنه بعبارة بيانه، ولا يستوعب وصفه بلسان قلمه وبنانه: [وافر]
ولو كان النّساء كمن فقدنا ** لفضّلت النّساء على الرّجال

والمولى أولى من عزّى نفسه، واستحسن رداء الصبر ولبسه، وعلم أنّ الموت غريمٌ لا ينجي منه كثرة المطال، ولا يدافع بالأطلاب والأبطال، وأنه إذا طالب بذمة كان ألدّ الخصام، وإذا حارب فعل بيده ما لا تفعله الكماة بحدّ الحسام.
الضرب السابع: التعازي المطلقة مما يصلح إيراده في كلّ صنف:
من ذلك، من ترسّل أبي الحسين بن سعد: من صحب الأيام وتقلّب في آنائها، اعتورته أحداثها، واختلفت عليه أحكامها، بين مسرّة ومساءة يعتقبان، وفرحةٍ وترحة يتناوبان، وكان فيما تأتيه من محبوبها على غير ثقةٍ من دوامه واتّصاله، ولا أمنٍ من تغيره وانتقاله، حتّى تعقب السلامة حسرة، وتستيحل النعمة محنة، والسعيد من وفّق في كلّ حالٍ لحظّه، وأعين على ما فيه سلامة دينه، من الشّكر على الموهبة، والصبر على النازلة، وتقديم حقّ الله تعالى في الغبطة والرّزيّة.
ولم تكن بالفجيعة به مفرداً عنّي وإن كان النّسب يقرّبه منك، والرّحم تصله بك؛ لما كنت أوجبه من حقّه، وأرعاه من مودّته، وأختصّه بالاعتداد فيه دون أداني أهلي والثّقة من إخواني، فمضى رحمه الله أقوى ما كان الأمل فيه، وأكمل ما كان عليه في لبّه وأدبه، واجتماع فهمه وكمال هديه، وانتظام أسباب الخير وأدوات الفضل فيه.
ومنه: لا ينكر للعبد أن يتنأول مولاه عند وقوع المحنة في أهل خاصّته، وتخوّن ريب المنون من حاشيته، بالتعزية عن مصيبته، والإخبار عما يخصّه من ألم فجيعته وعظم رزيّته، لا سيّما إذا كان بحيث لا يرى شخصه في الباكين، ولا تسمع صرخته بين المتفجّعين، ولو سعيت على حدقتي.
ومن ذلك: إنّ الله تعالى أمر أهل طاعته، بتنزيل هذه الدنيا بمنزلتها من إهانته، وسوّى بين البرّ والفاجر في رغائبها ومصائبها، ولم يجعل العطيّة دليلاً على رضاه، ولا الرزيّة دليلاً على سخطه، ولكنّه ألزم كلّ واحد من أهل الرّضا والسّخط من نعمها بنصيب، وسقاهم من حوادثها بذنوب؛ ليبتلي أهل رضاه في أهون الدارين عليه، ويحسن لهم الجزاء في أكرمهما لديه، ولذلك حبّب إليهم الزّهادة في زهيد فائدتها، وممنوح زهرتها، وسمّاها لعباً ولهواً؛ لئلاّ يعلقوا بحطامها، وينغمسوا في آثامها، وختمها بالموت الذي كتبه على خليقته، وسوّى بينهم في سكرته: ليجزي الّذين أساءوا بما عملوا ويجزي الّذين أحسنوا بالحسنى، ويقرّبهم بدار يفنى الموت ويبقون فيها بعده، كما فنوا في هذه الدار وبقي الموت بعدهم، فإن تأخّر الأجل فإلى غاية، وإن تطأول الأمد فإلى نهاية.
ولا بدّ أن يلحق التالي الماضي، والآن ف بالسالف، وهذه حالٌ نصب الأفكار، وتلقاء الأبصار، لا تحتاج أن يرتاض الصبر على آلامها، والتحمل لمعضلات سهامها، والجزع عند وقوعها قادحٌ في البصائر والأفهام، دالٌّ على الجهل بالليالي والأيام، وقد طرق المملوك ناعي فلان فهدّ جلدي، وفتّت كبدي، لا ارتياعاً للحادثة؛ لأنّها لو لم تكن فيه لكانت في المملوك، ولو لم تتطرّق إليه لتطرّقت إلى المدرك؟ ولكن الأسف على عطل الزمان من حيلة فضله، وتعرّيه من حلّة نبله، وخلوّا عراصه من الأنس بمثله، وما نال سيّدي لفقده، وتحمّله من بعده، وإلى الله تعالى يرغب المملوك أن يربط على قلبه بالصبر، ويوفّقه لتنجّز ما وعد به الصابرين من الأجر، إن شاء الله تعالى.
عليّ بن خلف:
رقعة: ليس عند المصيبة- أطال الله بقاء سيّدي- خيرٌ من التسليم إلى الله والرّضا بقضائه، والصبر على بلائه، فإنه تعالى مدح الصابرين في كتابه، ووعدهم بصلواته، فقال جلّ قائلاً: الّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون.
وقال جلّ قائلاً: وبشّر المخبتين الّذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصّابرين على ما أصابهم.
ولم تزل الأولياء من القدماء يحضّون على الصبر وهم لا يرجون عليه ثواباً، وينهون عن الجزع ولا يخافون عليه عقاباً.
ومن عرف الأيّام وتداولها، والأحوال وتحوّلها، وسّع صدره للنوائب، وصبر على تجرّع المصائب، ومن اغترّ بطول السّلامة، وطمع في الاستمرار والإقامة.
رقعة: وقد اتّصل بالمملوك خبر الفجيعة بفلان، فأفيضت المدامع، وتضعضت الأضالع، وزفرت الأنفاس، وهمدت الحواسّ، وأذاب الطرف سواده على الوجنات بدلاً من الأنقاس، وخلعت القلوب سويداءها على الأجساد، عوضاً عن جلابيب الحداد، وعضّت الأنامل جزعاً، ومزّقت الثياب تفجّعاً وتوجّعاً، وكل هذا وإن فارق حميد التّماسك، ووافق ذميم التّهالك، غير موفٍ بحقّ ذلك الدارج الذي بلغ المعالي وهو في مهده، وشدّ عائم الفضل ولم يبلغ أوان رشده، وعلم سيدي أنّ غاية الجازع وأن صدعت المصيبة قلبه، وأطاشت الفجيعة لبّه، الصبر والسّلوّ، وأنّ نهاية القلق وأن هجمت عليه الحرقة بما لا تتوفّر عليه الأضالع، ولا تتماسك معه المدامع، القرار والهدوّ، والله تعالى لا يريه بعد هذا الرّزء رزءاً بفنائه، وينقل ذلك عنه إلى حاسديه وأعدائه.
رقعة: من علم أنّ الأقضية لا تخطيء سهامها، والأقدار لا تردّ أحكامها، سلّم الأمر في السّرّاء والضّرّاء، ورضي بما مناه في البلاء والابتلاء، ولا سيّما في مصيبة الموت التي سوّى بين الخليقة في تجريع مصابها، واقتحام عقابها، وقد اتّصل بالمملوك خبر الحادث الفاصم لعرى الجلد، البارح في الجلد، فاستحالت في عين المملوك الأحوال، ومالت عنه الآمال، ورأى السماء وقد تكدّر جوّها، والشمس وقد تعكّر ضوّها، والسّحائب وقد أخلف نوّها، والنّهار وقد أظلم، والليل وقد ادلهمّ، والنسيم وقد ركد، والمعين وقد جمد، والزمان وقد سهمت وجنته، وسلبت حليته، وأفرجت قبضته عن التماسك، وقبضت على التهالك، وعدلت عن التجلّد، إلى التبلّد، ثم أفاق من غمرة فجيعته، وهبيب سنة روّيته، فسلّم لله راضياً بأقضيته، راغباً في مثوبته.
أبو الفرج الببغاء: إذا كان أيّده الله أهدى في النّعم إلى سبل الشكر، وأعرف في المحن بطرق الصبر، فكيف نحاذر عليه من المصائب، ونذكّره التسليم لمحتوم النّوائب، والمصيبة بفلان أعظم من أن نهتدي فيها إلى سلوةٍ غير مستفادةٍ منه، أو نقتدي في العزاء بغير ما نأخذه عنه، إذا كانت قلوبنا تبع قلبه- سرّه الله- في طروق السّرّاء والضّرّاء، وحالتي الشّدّة والرّخاء.
وأحسن الله عن الفجيعة عزاءه، وأجزل من المثوبة عطاءه، ولا شغله عن حلاوة شكر النّعم بمرارة الصبر على ورود المحن، وجعل ما نقل الماضي إليه، أنفع له ولسيّدي من الجزع عليه.
وله في مثله: اتّصل بي خبر المصيبة فجدّد الحسرة، وسكب العبرة، وأضرم الحرقة، وضاعف اللّوعة، وكان الأسف عليه، بقدر تشوّف الآمال كانت إليه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!! أخذاً بأمره، وتسليماً لحكمه، ورضاً بمواقع أقضيته، وأحسن الله في العزاء هدايته، وحرس من فتن المصائب بصيرته، وحمل عن قلبه ما أظلّه من ثقل المصيبة وعظم الرزيّة.
ولا أزال على جملةٍ من القلق إلى أن يرد عليّ كتابه- أيّده الله- بما أكون فيه بأدبه مقتدياً، وبهدايته إلى سبيل العزاء والصبر مهتدياً، فإن رأى إجرائي من تشريفه بذلك على مشكور العادة، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله: اشتراك القلوب فيما ألمّ بقلب سيّدي بحسب تساويها في المسرّة بما سرّه، إذ كان لا يختصّ دون أوليائه بنعمة، ولا ينفرد دون مؤمّليه بحلول موهبة، والمصيبة بفلان وإن جلّ موقعها وعظمت الفجيعة بها جلل مع سقوط الأقدار دونه، وتجاوزها عنه، ومسامحتها به، فلا شغل الله قلبه بعدها بمرارة الصبر عمّا توجبه النّعم من حلاوة الشّكر، ولا جاوره برزيّة في حميم ولا نعمة.
وله في مثله:
بصيرتك إلى العزاء تهديك، واغتباطك بثواب الله يسلّيك، وعلمك بقلّة الغناء عن الجزع يثنيك، وجمعنا بك في الصبر مقتدون، ولرأيك في الرّضا بما اختاره الله تعالى متّبعون، فحمل الله عن قلبك ثقل المصيبة، وحرس يقينك من اعتراض الشبهة، وأحسن إلى جميل الصبر هدايتك، وتولّى من فتن المحن رعايتك، وجعل ما نقل الماضي إليه، أنفع لك وله من الأسف عليه.
وله في مثله: اتّصل بي خبر المصيبة فأضرم الحسرة، وسكب العبرة، وقدح اللّوعة، وامترى الدّمعة، وكانت مشاركتي إيّاك في المصيبة به، والفجيعة لفقده، بحسب اختصاصي بمواهب الله عندك، واغتباطي بمنحه لديك، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون!! تسليماً لأمره، وانقياداً لحكمه، ورضاً بمواقع أقداره، وأحسن الله على العزاء توفيقك، وإلى السّلوة إرشادك، ولا أخلاك فيما تطرقك به مصيبةٌ من مصاحبة الصبر، وفيما تفد به عليك نعمةٌ من الاستزادة بالشّكر، وحرسك في نفسك وأحبّتك، وذوي عنايتك ونعمتك.
وله في مثله: قدرك أكبر، وبصيرتك أنور، وثقتك بالله تعالى أعظم من اعتراض الشّكوك عليك فيما يطرقك من عظاته بالحوادث وإن عظمت، والمحن وإن جلّت، اختباراً بالمصائب لصبرك، وبما يظاهره عليك من النّعم لشكرك، ومثلك، أيّدك الله، من قابل الفجيعة بفلان- إذ كانت من الواجب المحتوم- بأحسن عزاءٍ وأفضل تسليم، غير مرتابٍ بما اختاره الله له ولك فيه، فعظّم الله به أجرك وحرسك وحرس فيك.
الأجوبة عن التعازي.
قال في موادّ البيان: أجوبة التّعازي يجب أن تبنى على وقوف المعزّى على كتاب المعزّي، وأنّ إرشاده نقع غلّته، ووعظ نفع علّته، وتبصيره سكّن أواره، وتذكيره أخمد ناره، وتنبيهه أيقظ منه بحسن العزاء غافلاً، وهدى إلى الصبر ذاهلاً، وحسّن عنده الرزيّة بعد جهامتها، ودمّث نفسه للمصيبة بعد فدامتها، فسلّم لله تعالى متأدّباً بأدبه، وعمل بالحكم مقتدياً بمذهبه، وغالب الرّزء بالعزم، وأخذ فيه بالحزم، وسأل الله تعالى أن يحسن له العوض في ردّه، ويجعله له خلفاً ممن أصيب بفقده، ونحو هذا مما ينخرط في سلكه.
جواب عن تعزية: من زهر الربيع: أعزّ الله سيدنا وأسعده، وسهّل له طريق المسرّة ومهّده، وصان عن حوادث الأيّام حجابه، وعن طوارق الحدثان جنابه، وجعله في حمىً عن عوارض الغير والغرر، وأصار أيّامه محسّنة لوجوه الأيّام كالغرر.
ورد الكتاب الذي أنعم بإرساله، بل المشرّف الذي كسته اليد العالية حلّةً من حلل جماله، فوقف عليه وفهمه وتذكّر به إحسانه الذي لا ينساه، وتفضّله الذي لا يعرف سواه، فأما التعزية بفلان، فإنّه ردّ بعذب لفظها قوّته، وبلّ بماء حسنها غلّته، وصبّره على حادثته بفلان بعد أن عزّ عليه العزاء وأعوزه، وطلب وعده من صبره فما أنجزه، لأنه كان وجد لموت المذكور حزناً ما استطاع له تركاً، وفقد لموته خلاًّ مثله يناح عليه ويبكى، وفي بقاء مولانا مسرّةٌ تطرد كلّ حزن، وفي بهاء طلعته عوضٌ عن كلّ منظر حسن، جعله الله سامياً على أترابه، مقدّماً على أضرابه، ما سمت الأسماء على الأفعال، وتقدّم الحال على الاستقبال.
آخر: ضاعف الله بقاءه وأطال عمره، وشرح لإسداء المكارم صدره، وأنفذ نهيه وأمره، ولا زال إلى أوليائه محسناً، وفضله يحصّل لمحبّيه غاية السّول والمنى، ورد مشرّفه المعزّي بوفاة فلان سقى الله عهده عهاد رضوانه، وأسكنه في غرف غفرانه، فجبر مصاباً، وفتح إلى الصّبر أبواباً، وهدى إلى طريق الخير وقال صواباً، وسكّن نفسه، وذكّره إحسانه الذي لم ينسه، وأزال الوحشة وزاد أنسه، بعد أن كان فقد المذكور قد هدّ ركنه وفتّ عضده، وأوصله إلى أمد الحزن وضاعف على الأيّام أمده، وألبسه رداء الاكتئاب، على تربه الذي أصبح تحت التّراب، وصديقه الموصوف بالصدق، الذي فاق سناه ذلك الأفق، جعله الله أصلاً في تحصيل المسرّة إذا ذوت الفروع، وسيفاً يقهر به وليّه الحوادث التي تروع، إن شاء الله تعالى.
آخر: جعل الله أجره عظيماً كقدره، والقلوب مجمعةً على حبّه كإجماع الألسنة على شكره.
المملوك يعلمه بورود كتابه الكريم المعزّي بفلان- قدّس الله روحه، وأمطر سحائب الرحمة ضريحه- عليه، وعنده من شديد الحزن، ما أعدمه لذيذ الوسن، ومن زائد الاكتئاب، ما كاد يحرمه التقمّص بثوب الثّواب، بحيث إنّه عوّض بالزّمن الأسود عن العيش الأخضر، وذاق من موجب لبس الأبيض طعم الموت الأحمر، وأنّه ضمّه إليه ضمّ المحبوب، وابتهج به ابتهاج من ظفر بغاية السّول والمطلوب، فأغمدت الكآبة خوفاً من قلمه سيفها، وأزالت الدنيا الدنيّة عنه حيفها، وعزّى نفسه وسلاّها، وشغله إحسانه عن محاسن محا الموت سناها، فرفض من توجّعه ما فرضته حادثته، وسلك منهجاً غير المنهج الذي فتّتت فيه حشاه ومهجته، فالله تعالى يكفينا ما نحاذره في المجلس ويحرس سناه، ويديم سعده وعلاه.
النوع الثالث من مقاصد المكاتبات: التّهادي والملاطفة:
قال في موادّ البيان: رقع التّهادي يجب أن تودع من الألفاظ المستحسنة ما يمهّد لقبول الملاطفة والمبرّة التي تتميز في المودّة.
قال: وينبغي أن يطرف الكاتب إذا كان مهدياً أو مستهدياً، وقد جرت العادة أن تودع هذه الرقاع من أوصاف الشيء المهدى ما يحسّنه في نفس المهدى إليه.
قال: وينبغي لمن ذهب هذا المذهب أن لا يعتمد تفخيم هديّته، ولا الإشارة إلى جلالة خطرها، فإنّ ذلك يخلّ بشروط المروءة ويتحاماه الكرماء.
ثم هي على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: ما يكتب مع التّقادم إلى الملوك من أهل مملكتهم إلى القائمين بإيصال التّقدمة إلى الملك وكاتب السّرّ ونحوهما:
الشيخ جمال الدين بن نباتة: إلى كاتب السّرّ بالأبواب السلطانية صحبة تقدمة من نائب الشام إلى السلطان: لا زالت أقلامها لنتائج الفضل مقدّمة، ولمراكض الكرم والبأس جياداً مسوّمة ولكتائب الملك من كتبه أعلاماً بشعارها العبّاسيّة معلمة، وفي يد صاحبها من أصحاب الميمنة، والذين كفروا بآيات الله ونعمها من أصحاب المشأمة، تقبيل محبٍّ لا تفسخ عقود ولائه المحكمة، ولا تنسخ إلاّ في الكتب عقود ثنائه المنظّمة، ولا تطوف الأشواق ببيت قلبه إلاّ وهي من ملابس السّلوان المحرّم محرمة.
وينهي أنّه قد اختار من عناية مولانا بمقاصده أحسن الخير، وبورك له في قصدها ومن بورك له في شيء فليلزمه كما جاء الخبر، وقد جهّر فلاناً إلى الأبواب الشريفة خلّد الله سلطانها بتقدمته على العادة في كلّ سنة، واتبع سفارة مولانا بين يدي المواقف الشريفة فاتّبع من القول أحسنه، وسأل حسن نظر مولانا الذي إذا لاحظ قصداً أعلنه وسعداً عيّنه، وقد جهّز المملوك برسم مولانا ما هو بمقتدى الورقة المجهّزة عطفها، المؤمّلة وإن كانت ورقةً قطفها، وسأل مقابلتها بالجبر الذي يحسب الأمل حسابه، ويستفتح ببنان القلم بابه، والإصغاء لما يملى من رسائل الشّوق فإنّها من رسائل إخوان الصّفا المستطابة، لا برح القاصدون مرحين بأيّام مولانا وحقّ لهم أن يمرحوا، تالين نسبة بيته ورحمى الله على يده: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا.
وله إليه أيضاً مع الجهاز الشريف السلطاني: أمتعها الله من خيري الدنيا والآخرة بكرم الأمرين، وبشرف الذّكرين، وسرّها بما يجهّز في الثناء والثّواب من الوفرين، وأعلى منارها المحلّق إلى السماء على وكر النّسرين.
ولا زالت الآمال لا تبرح حتّى تبلغ من تلك اليدين مجمع البحرين، تقبيل مخلصٍ في الولاء والدّعاء، مستشهدٍ بالخواطر الكريمة على ثبوت الإدّعاء، واردٍ لموارد النّعم قبل صدور بل قبل ورود الرّعاء.
وينهي أنّه ليس للملوك فيما يؤمّله ويتأمّله، ويفصّله من عقود المطالب ويجمله، غير إحسان مولانا الذي لا يملّ على طول الإيناس والإلباس، وعوارف بيته المستجدة تالية: إنّ الله لذو فضلٍ على النّاس.
وقد جهّز المملوك الولد فلاناً بالجهاز المبارك إلى الأبواب الشريفة خلّد الله سلطانها، وملأ به جواهر حبّات القلوب وريحانها، وهو على قدر المملوك ومقداره، لا على قدر مراده واختياره، ولو أنّ المراد مما يحمله العبد إلى سيّده، ويقدّمه من سبد الحال ولبده، على قدر المحمول إليه، والمقدّم بين يديه لضعفت قوى أكثر العبيد عن ذلك، ويأس من الرّضوان جهدهم المالك، وإنّما على العبيد أن تنصب على قدرتها الحال، وعلى السادات أن تصرّف بعوامل الخبر مستقبل الأفعال.
وعلم مولانا الكريم محيطٌ بتنقّل المملوك في هذه السّنين من بلدٍ إلى بلد، ومن أمد كلّفه إلى أمدٍ، وبما حصل في ذلك من التمحّق في إقطاعاتٍ كاد أن يخني عليها الذي أخنى على لبد.
وكان المملوك يودّ لو كان هذا المحمول من الجهاز من جواهر النّجوم المنثورة، وأخبية السّعود المأثورة، وجميع ما زيّن للناس من الشّهوات المذكورة، أضعاف أضعافه الآن، بل أضعاف أضعاف ما حمل الأوّلون من فلانٍ وفلان، كالحسن بن سهل مع الجهة المأمونيّة التي حلا ذكرها، وابن طولون مع المعتضديّة التي كاثر هذا الغيث قطرها، والسّامانيّ وما أدراك، والسّلجوقيّ وما أسراك، وجميع ما تضمّنته التواريخ التي لو عاينت تاريخ هذه الدولة الشريفة عنت في الحال لمجده، وكان كلّ مجلّد منها يموت للهيبة في جلده؛ لما خلّدته أيّامها الشريفة من أخبار حكمها وخيرها، وكرمها وبرّها، وعطفها على مماليك بيتها الشريف، تتقبّل ميسورهم، وتكمّل سرورهم، ويملأ بجيوش الانشراح صدورهم، وتبلّغهم من همم مطلوبهم، وتقبل على زاهرات نجاياهم ورياحين قلوبهم: [متقارب]
ولو لم تطعه نيات القلوب ** لما قبل الله أعمالها

والمملوك يسأل من إحسان مولانا الذي ألفه، ومعروفه الذي عرفه، ملاحظة الولد فلان بين يدي المواقف الشريفة خلّد الله سلطانها، وإقامة عذر المملوك بعبارته التي أحلّ الله سحرها وبيانها.
فما للمملوك في مقاصده مثل مودّة مولانا الوافية المتوافية، ومقدّمة عبارته الكافية الشافية، والله تعالى يعين على شكر مننه، والقيام بفرائض حمده وسننه، والنهوض بأوصاف أياديه التي يغرّد بها قلم الكتّاب كما يغرّد القمريّ على فننه.
الضرب الثاني: ما يكتب مع الهديّة عند بعثها:
وهو على عشرة أصناف:
الصنف الأول: ما يكتب مع إهداء الخيل:
علي بن خلف: في إهداء جوادٍ أدهم أغرّ محجّل.
وقد خدم المملوك ركابه الأكرم، بجوادٍ أدهم مطهّم، قد سلب الليل غياهبه وكواكبه، فاشتمل بأديمه، وتحلّى بنجومه، وأطلع من غرّته السّاذجة قمراً متّصلاً بالمجرّة، وتحلّى من رثمته بالثّريّا أو النّثر، صافي القميص، ممحوض الفصوص، حديد الناظر، صليب الحافر، وثيق القصب، نقيّ العصب، قصير المطا، جعد النّسا، كأنما انتعلت بالرّياح الأربع أربعه، وأصغى لاستراق السّمع مسمعه، إن ترك سار، وإن غمز طار، وإن ثني انحرف، وإن استوقف وقف، أديب نجيب، متينٍ صليب، صبورٍ شكور، والله تعالى يجعل السعادة مطلع غرّته، والإقبال معقد ناصيته.
من كلام المتأخرين:
كتاب عن نائب الشام إلى الملك الصالح: شمس الدين صاحب ماردين قرين خيل منعم بها إليه، عن السلطان الملك الصالح، عماد الدين إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون، من إنشاء الشيخ جمال الدين ابن نباتة، وهو بعد الألقاب: وأجرى بالنّصر جياده، وبالظّفر مراده، وعلى عوائد السّعد مطالع شمسه التي يسمّيها عرف المملكة بلاده، ولا زالت منيرةً بسعادة شمسه الأحلاك، نظيمةً بدرّ محامده الأسلاك، ماثلةً خيول سعده حتى حمر السّوابق من البروق والشّهب السّوانح في الأفلاك.
المملوك يقبّل اليد التي إذا بسطت فلأن تجود وتستلم، وإذا قبضت فعلى سيف أو قلم.
وينهي بعد ولاءٍ وثناءٍ للإخلاص شارحين، وفي الضمائر والآفاق سانحين، واشتياقٍ وعهدٍ كانا أحقّ بالانتماء لاسمه ونعته وكانا أبواهما صالحين، أن المرسوم الشريف زاده الله تعالى شرفاً، وردّ يتضمن تشريف مولانا على العادة وإعظامه، واستقرار مكانته من الخواطر الشريفة في دار مقامه، واستمرار كرامته من الآراء المعظّمة ولا ينكر بين الصالح والصّالح استمرار الكرامة، وأنّ الصّدقات الشريفة أنعمت على مولانا بثلاثة أرؤس من الخيل كثلاثة الراح، إلا أن حبابها عرق سبقها، وثلاثة الشجر كما قال الطائي: تساوي شرف ثمرها وزهرها وعرفها، ما منها إلا من تقصر الرّياح أن تسلك فجّه، والبروق أن تتبع نهجه. ومن تودّ الثريّا أن تكون لجامه والهلال أن يكون سرجه. ومن يتمطّر كالغمام ويركض كالسّيل. ومن كملت حلاه ولبس حلّه الفخار فمشى على الحالتين في الحلّتين مسبل الذّيل.
ومن عقد بناصيته كلّ الخير وعقد له لواء الفخار على كل الخيل، من كل خضراء معجبة فهي على المجاز حديقة، وكل أحمر سابقٍ فهو البرقيّ على الحقيقة، وكلّ أصفر شفقيٍّ إلا أنّ الرياح من مجاراته على نفسها شفيقة.
وكيف لا يشبّه بالشّفق وهو من الأصائل؟ وكيف لا يفتخر العسكريّ بهذه الخيل وخناصر عددها في الحسن أوائل؟ قد صرفت وجوهها المقبّلة، لباب مولانا أحسن المصارف، وكتبت عوارف الفضل في معارفه المسبلة، فناهيك منها بكتاب عوارف المعارف، ووصل لمولانا بذلك مثالٌ شريف، ورسم للمملوك بتجهيزها مع من يراه، وقد جهّز المملوك لخدمة مولانا الخيل المذكورة مع المثال الشريف صحبة فلان، ومولانا أدرى بنفحات رياض الحمد بهذه الدّيم المطلّة، وبالتقبيل بالأرض التي هي سماء حوافر هذه الخيل التي هي أهلّة، وأولى أن يشرّف المملوك بمهمّاته، ويؤنس لحظه بطيف اليقظة من مشرّفاته، والله تعالى يجدّد لمعاليه في كل قصد نجحاً، ويعلي لمجده في كل حال قدحاً، ويروّع الأعداء من خطوات خيله في بلادهم بالمغيرات صبحاً، ومن خطرات ذكره في قلوبهم بالموريات قدحاً.
وفي معناه: يقبّل الباسطة الشريفة أعلى الله شانها، وجمّل ببقائها زمانها، وضاعف على الأولياء برّها وإحسانها.
وينهي: أنه ابتاع جواداً أعجبه، وطرفاً انتخبه، وقد قدّمه لوليّ نعمته، ومالك عهدته؛ لأنّ الكرام لا تكون إلا عند سيّد الكرام، والذي يصلح للمولى على بعينه التي لا تنام، آمين.
الأجوبة بوصول الخيل:
جوابٌ عن نائب الشام إلى أميرآخور بالأبواب الشريفة، عن وصول خيلٍ إليه من الإنعام الشريف من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو بعد الألقاب: لازالت مبشّرةً بأعظم الخير وكرام الخيل، ميسّرة النعماء بسوابق السّير كدوافق السيل، مسفرةً عن إيجاد سوابح إلا أنها في الفخار والشّية ضافية الذّيل، سفيرة في الجواد بكل جوادٍ تبتسم غرّته ابتسام النهار ويدرك طلبه إدراك الليل، تقبيلاً يستبق استباق الجياد، ويتّسق على الدّرج اتّساق العقود على الأجياد.
وينهي بعد ثناءٍ وولاءٍ: هذا يهيم في كل واد، وهذا يهيم بمثله كلّ وادّ، ورود مشرّفة مولانا الكريمة بما ملأ القلب مسرة، والعين قرّة، ودرج عام الفيل من نجب الخيل السيارة مستهلّ وغرّة، فقابلها المملوك بتقبيله، وقام لها على قدم تبجيله، ثم قام إلى الخيل الشريفة المنعم بها عليه فقبّل من حوافرها أهلّةً ثم من غررها نجوماً، وتأمّل شياتها البرقيّة واستمطر من السّعود غيوماّ، فأدنت له من الإقبال أمد قاصيها، وظلّ بمنزله الخير المعقود بنواصيها، وتضاعفت أدعيته الصالحة لهذه الدولة القاهرة الصالحيّة زادها الله من فضله، والوقت الذي ملأ الدنيا بسحاب جوده ورياح جياده ورياض عدله، والملك الذي لا ينبغي لأحدٍ من بعده، ولولا شهود العهد الشهيدي لقال: ولا لأحدٍ من قبله، وأعدّ المملوك هذه الثلاثة من الخيل ليفني عليها بالقتال أهل التعطيل والتثّليث، ويستخفّ بها آجال الأعداء بين يدي مالكه، فإنها من ذوات العزّ والعزم الحثيث، وما هي إلاّ كواكب سعد تمددها أسنتّها الوقّادة، وزهرات حسن حيّت بها على البعد سفارته المعتادة؛ لا برح مولانا يقلّد بعنايته وإعانته المنن الجسام، وينصر بعزائمه القاطعة، وكيف لا ينصر ويقطع وهو الحسام؟ وله في جواب وصول أكديشٍ وبازٍ وكوهيّةٍ: لا زال جزيلاً سماحه، جميلاً من الحمد رباحه، جليلاً برّه الذي يشهد به طائر الخير ويمنّه وطائل الخيل ونجاحه.
هذه المفاوضة تهدي إليه سلاماً يخفق جناحه، وثناءً تشرق غرره وأوضاحه، وتوّضح لعلمه الكريم ورود مكاتبته سريعة الاحتثاث، طائرةً بيمن طرسها وهديّتها بأجنحةٍ مثنى وثلاث، فحصل الوقوف عليها وتجدّد عهد الارتياح لديها، وفهمنا ما لم نزل نفهمه من ودّ الجناب العالي، وبرّه المتعالي، ووفاء عهده الذي تتلقّاه المحامد بأمالي المحبّ لا بأمالي القالي، ووصل الأكديش الايكر ظاهراً حسنه، وسافراً عن وفق المراد يمنه، تتجمّل به المواكب، وتمشيه الرّياح وبعضها من خلفه جنائب، وكذلك وصل البازي والكوهيّة، وكلاهما بديع الأوصاف، سريع الاقتطاف لأزاهر الطير والاختطاف، يسبق الطّرف بجناحه اللّموح، ويستعجل من الأفق وارد الرّزق الممنوح، ويواصل الخير والمير إلى المطبخ، فكأنّ حوائج كاش تغدو إليه وتروح، لا برح إحسان الجناب العالي واصلاً، وذكره في ضمير الاعتداد حاصلاً، وحكم سماحته وشجاعته باستحقاق الثناء حاصلاً.
جواب بوصول جوارح: كتب به عن نائب الشام، جواباً لمطالعةٍ وردت على نائب الشام من الصالح صاحب ماردين من بقايا بني أرتق، صحبة سناقر، هديّةٍ للصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون، صاحب الديار المصرية.
من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة: وأيّد هممه السّوابح، ونعمه السوافح، وشيمه التي تنتظم منها عليه درر المحامد والممادح، وشكر هداياه التي منها جوارح الطير تخفق لفرط استحسانها الجوارح، ولا زال من أجنحة نصره حتّى السّماك الرامح، ومن جنود سعده للأولياء سعد السّعود، وفي الأعداء سعد الذابح، ومن جياد ركابه الشهب إلاّ أنّها شهب الأفلاك السّوابح، ولا برح سلطان البسيطة مكافئاً عمل قلبه الوفيّ، ولا ينكر العمل بالقلوب بين الصالح والصّالح.
المملوك يقبّل الأرض التي تستمدّ السّحب من سمائها، وتستعدّ منازل الأنجم للتعلّم من أنوائها، تقبيلاً يودع ورق الرسائل أزاهره، ويطلع في ليالي السّطور زواهره، ويدّخر في أيدي الحروف إلى أن تصل إلى أجياد المنابر جواهره.
وينهي- بعد دعاءٍ صالح، إذ جدّد تجدّد، وولاءٍ ناجح، إذا انعطف تأكّد، وثناء سانح، إذا سرى لا يتوقّف إلا أنّ نسميه في الآفاق يتردّد، وارتياحٍ لما يرد من أخبار دياره السارّة إذا شافه سروره سمع الوليّ شهد وسمع الحاسد تشهّد، حيث يتلقّى ببلاده النّجح والمقاصد، وصلات البرّ والعوائد، ووفود الآمال من كل أوب، فديار بكر ديار زيدٍ وعمرو وخالد- ورود المشرّف الكريم، بل الغيث السائر بخصب المقيم، على يد فلان ونعم اليد العائلة لأيادي البرّ العميم، ونعم المشرّف الوارد عن مقرٍّ، هذا للأمل كهف وهذا للتأميل رقيم، ففضّه المملوك عن علامة اسم لحسنها رسوم، ولها رسوم، واستجلى مواقع تلك الأنامل المضيّة وأقسم على فضلها بمواقع النّجوم، وانتهى إلى الإشارات العالية، وعلم ما كان القلب يعلمه من ضمائر الودّ الحاليّة لا الخالية، وقابل كل أمرٍ حسنٍ بما يجب من مذاهب الودّ المتواليه، ووصلت السّناقر المنير سنا فضلها، المبير في معارك الصيد شبا نصلها، القائمة في كواسر الطير مقام الملوك الأكاسرة إلا في حكمها وعدلها، لا جرم أنها إذا دخلت آفاق طيرٍ أفسدتها وجعلت أعزّة أهلها أذّلة، وإذا انقضّت على سرب وحشٍ جذبتها من دم الأوردة بأرسانٍ حيث كستها من قوادم الأجنحة أجلّة، لا يسأل كاسرها في الطّيور بأيّ ذنبٍ قتلت، ولا يحملها جانب الطير والوحش إذا عاندته، فيا عجباً لها على أيدي البشر كيف حملت، تظلّ الصيد فلا عجب أن يفزع بها من ظلّه، وتكتب علائم اليمن والظّفر بما في لونها من شبه الخطّ وشكله، نعم الجالبة للخير والمير، والسائرة بما يخيف المتصيّدات وكيف لا؟ وعلى رؤوسها الطير، أزاهر حسنٍ لا بدع أن يكون لها كمائم، وبوارق العزم لا جرم أنّ أجنحتها عمائم، ونواقل البأس والكرم عن مرسلها فمهما جمعته الشّجاعة فرّقته المكارم. استجلاها المملوك بعد ألفاظ المشرّف الكريم فقال: تلك الرياض وهذه السّحب، وتلك الأنوار الهادية وهذه في أفق مطارها الشّهب؛ وجهّز المملوك المطالعة المحضرة للأبواب الشريفة أعلاها الله وشرّفها على يد فلان المذكور فقوبل بالإكرام والكرم، ومثل بالمواقف الشريفة مثولاً رقى بهمّته إلى الكواكب لا جرم، وذكّر بصالح بيت الارتقاء صالح بيت أرتق حتّى أنشد: [بسيط]
فهل درى البيت أنّي بعد فرقته ** ما سرت من حرمٍ إلاً إلى حرم

وقد عاد معلماً من البشر بما يراه مولانا عليه، معلماً بما تقدّم من نجوى الإنعام بين يديه، حاملاً من كرمٍ وجاهٍ يعدّان للأولياء في يوم نزل وللأعداء في يوم نزال، قائلاً برجاء سعيه المؤمّن: يا صالح قد كنت فينا مرجوّاً قبل هذا ولن تزال، والله تعالى يجري كرم مولانا على عوائد إسعاده، ويحرس بعينه وملائكته نفاسه نفسه وبلاده، ويدخله باسمه ومسمّاه لدى الدّنيا والآخرة في الصّالحين من عباده.
وله جوابٌ بوصول بازيين: ولا زالت بزاة كرمه على الحمد مطلّة، وسحائبه مستهلّة، وهممه مستقلّة بأعباء المكارم وإن كانت لكثير ما يهديه مستقلّة.
هذه المفاوضة تهدي إليه من السلام أجلّه، وتوضّح لعلمه الكريم وصول مكاتبته العالية فوقفنا عليها، وعوّذناها بكلمات الثناء التامّة من خلفها ومن بين يديها، وعلمنا ما لم نزل نعلمه من موالاته وآلائه المسند في الشكر عنها والمستند في الولاء إليها، ووصل كلا البازيين الحسنين المحسنين كأنّهما فرقدا سماءٍ قد اجتمعا، وقمرا حسنٍ طلعا، وعلى محاسن الصيد اطّلعا، يسرّان القلوب والأبصار، ويحمل كلٌّ منهما على اليمين فيحصل به اليسار، وما هما بأول إحسانه الأسنى، وبرّه الأهنى، وأياديه التي أبى الكرم إلا أن ترد مثنى مثنى، وعلم اعتزاره عن الكوهيّة التي كان ادّخرها فنفقت، ولو أقيمت بها أسواق الصيد نفقت، وأرسل بروايتها تحقيقاً لدعوى المكارم التي من زمانٍ تحقّقت، والله تعالى يشكر برّه، ويملأ بذكره بحر الثناء وبرّه.
وله جوابٌ بوصول كوهيّتين على يد شخصٍ اسمه باشق.
لا زالت المحامد من مصايد إنعامه، وفوائد أيّامه، وثمرات البأس والكرم من قضب سيوفه وأقلامه، تقبيل معترفٍ بإحسانها، مغترفٍ من موارد امتنانها، متحفٍ منها بعالي تحفٍ تدلّ على مكانها في الفضل وإمكانها.
وينهي ورود مشرّف مولانا الكريم على يد الولد باشق فياله باشقٌ جاء بكوهيّتين جميلتين، وطار للسّرعة وهو حاملٌ منّتين جليلتين، وقد وصلتا وكلتاهما حسنة الخبر والخبر، حميدة الورد والصدر، يحسن مسرى كلٍّ منهما وسيره، ويتجمّل بهما باب الشّكر خاناه وصدرها ويكثر خير المطبخ وميره، فمدّ المملوك إليهما اليد المتحمّلة الحاملة، وإلى المشرّف الكريم اليد المتولّية المتنأولة، وعلم ما تضمنه من الحسن والإحسان، وذكر الموالاة التي يحكم بها القلب العالم قبل شهادة اللّسان، واعتذار مولانا عن تعذّر وجود الشاهين، وكلّ إحسان مولانا شهيّ كافي، وكلّ موارد نعمه هنيّ صافي، وما فات مقصدٌ وإنعام مولانا وراء طلبه وإن طال الأمد، ولا فرّ مطلوبٌ حتّى يأتي به سعد مولانا مقروناً في صفد، والله تعالى يشكر عوائد فضله، ولا يضحي الآمال الملتجئة إليه من ظلّه.
جواب بوصول طيور، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة: وشكر هداياه المتقبّلة، وسجاياه التي هي بأفواه المحامد مقبلّة، ولا زال بدر سعادته المأمولة وطائر هديّته المتأمّلة.
صدرت هذه المكاتبة إلى الجناب العالي تهدي إليه من السلام أتمّه، ومن الثناء أنمّه، وتوضّح لعلمه الكريم ورود مكاتبته الكريمة، ومكارمه العميمة، وطيور هديّته التي كلٌّ منها في الحسن بدر تمّ، وظهرت ظهور البدر لتمامه فأبت محاسنها أن تنكتم، فحسن ورودها، ورعي بفضل التلطّف والتودّد مقصودها، وأقبلت تلك الطيور التمّيّة تامّة الإنعام، دالّةً بيمن طائرها على بركة عامّة وكيف لا؟ وقد جاءت بيضاء عدد شهور العام، والله تعالى يزيده من فضله، ويجري الأقدار بالسّعود الشاملة لجمعه الجامعة لشمله، إن شاء الله تعالى.
جواب في المعنى، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضاً: لا زالت الجوارح شاهدةً ببرّه، والجوانح حائمة الجناح على شريف ذكره، والمحامد من مصايد أقلامه ورماحه في السّلم والحرب؛ فإمّا بقوادم سمره، وإمّا بمناسر حمره، تقبيلاً يبعثه على أجنحة أوراق الرّسائل، ويتصيّد به على البعد مشافهة تلك الأنامل الجلائل.
وينهي بعد دعاءٍ، تحلّق إلى السماء كلماته الحسنة، وولاءٍ وثناء: هذا تخفق بتشوّقه أجنحة القلوب، وهذا تخفق بذكره أجنحة الألسنة أنّ كتاب مولانا ورد على المملوك فأورد عليه المسارّ، وملأ يده بالمبارّ، ومصايده بالمير، ومنازله بالخير، وآماله بآمالي الكرم لذي السرحات المنشرح بآية وعلّمنا منطق الطّير فقابله المملوك بتقبيله، وواصل فضل الاعتداد بتفضيله، وحصل من هداياها وهداها على جملة الإحسان وتفصيله، وانتهى إلى الإشارات العالية التي زكت على العيان وتأمّله وأربت على الجنان وتأميله.
فأمّا الإنعام بالكوهيّتين اللتين ما قذف البحر إلى الساحل أبهى من دررهما المكنونة، وأزهر من وجوههما المباركة الميمونة، فقد وصل كلا الطائرين بيمنه، والسابقين بمنّه، والغائبين في جوّ السماء الآتيين من الصّيود بأوفى من قطرات مونه، واستقبل المملوك منهما وجوه المسارّ، وحملت يمينه الثّروة وحملت على اليسار، وتنأولت يده يدي إحسانٍ يسرّ الناظرين والسامعين، واستخدما للشّكر خاناه ولحفظ مطبخ يملأ عيون المشبعين والجائعين، وقال صنع الله لصناعتهما: ائتيا بصيود الٍسّماء طوعاً أو كرهاً {قالتا أتينا طائعين} قد كتبت باليمن في مطاوي ريشها أشباه الحروف، وقضى الجود لتلك الأحرف أن تقري ما تقتري عواصي الطير له بطاقةٍ تقيّد السابح في طلقه، ويعود مطلقها وقد ألزم نجاح الطير طائره في عنقه، فشكر الله إحسان مولانا الذي ألحف الأمل جناحه، والقصد نجاحه؛ وبرّه الذي أحمد في سوانح الطير وبوارحه مساءه وصباحه، وعلم ما أشار مولانا إليه في أمر فلان وأمره علم الله تعالى في الخاطر حاضره، وما يؤخّر شغله عن إهمالٍ وعائب الإمهال غادر، وما أشار إليه في أمر فلان أمير شكاره وأمير شكر المملوك، وتقدّم بخلاص حقّه، واستنزل بهديّته قضاء الشّغل من أفقه، لا برح مولانا ممتثل الأوامر، هامي سحب البرّ الهوامر، مجدّداً في كلّ وقتٍ نعمى، مالئاً بهداياه قلوب محبّيه وبيوتهم شحماً ولحماً، إن شاء الله تعالى.
وله جوابٌ في وصول طيور العقعق: لا زالت متّصلةً منن إرفادها وإرفاقها، نازلةً على حكمها الأشياء حتّى الطّير العاقّة من آفاقها، خافقةً أعلام نصرها بالأجنحة مؤمّنةً لظنون القاصدين من إخفاقها، تقبيل مطلقٍ لسان الحمد على عوائد إطلاقها، مجتنٍ لثمرات الإحسان من غصون أقلامها وغصون أوراقها.
وينهي ورود مشرّف مولانا العالي على يد الولد فلانٍ فوقف المملوك عليه، وعلم من جميل الاحتفال ما أشار إليه، وأنه موقّع على المقصود من طيور العقعق فأوقعها من مطارها، واستنزلها من أوكار أفقها وأفق أوكارها، وأرسلها قرين مشرّفه الكريم، وقلد عنق الأمل بعقدها النّظيم، ووصلت سبعةً كعدد أيّام الجمعة الكاملة، والكواكب الماثلة، والسّموات لا جرم أن سحب يمنها هاملة، حسنة الشّكل الموصوف والوصف وإن كان مع عقوقه المألوف، طائعةً لأوامر توقيعه فما عقّ منها شيءٌ غير تضعّف اسمها المعروف، لا برح إحسان مولانا متنوعاً، وبره الجزيل متبرعاً، وغصن قلمه بأنواع المكارم متفرعاً.
وله جواب بوصول تماتٍ، وإوزٍ صينيٍ، وطلب إمرة عشرة: حمى الله تلك النعمة من الغير، وأطلعها عليه بأيمن الغرر، ولا برح طائر منه كوصفه أبيض الخبر والخبر. هذه المفاوضة إلى الجناب الكريم تهدي إليه سلاماً يشوق الصباح، وثناءً خفاق الجناح، وتوضح لعلمه الكريم ورود مكاتبته الكريمة جميلة الفوائد، جليلة المصايد، تمية البدور المتنأولة من منال الفراقد، فوقفنا بالأشواق عليها، وعطفنا على العادة بتأكيد الولاء إليها، ووصلت تلك التمات واضحة الأنوار، لائحةً كبياض النوار، تامة تمام ميقات موسى عليه السلام، إلا أنها لبياضها كأربعين نهار، وكذلك البط الصيني كأيام الحج عشرة كاملة، مفترضاً على عشرتها ولاء القلوب المتأملة الآملة، صينيةٌ مملوءةٌ بمحاسن الألوان التي هي بغير مثلٍ ماثلة، وحصل الاعتداد ببره، والازدياد لحمده وشكره، وفهمنا ما ذكره من إمرة العشرة التي انحلت عن فلان، وقد طالعنا بأمرها، وعجلنا بذكرها، ونرجو أن يعجل بأمانيها المنتظرة، وأن يقابل بخوافق أعلامها خوافق بطه فتقابل عشرةٌ بعشرة، والله تعالى يعجل لمعاليه الصعود، ويؤكد لمساعيه السعود، إن شاء الله تعالى.
الأجوبة عن وصول الصيود ولحومها:
جوابٌ عن نائب الشام إلى نائب حلب بوصول لحم طير صيد قديد وصحبته بطيخ أخضر، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة. وهو بعد الألقاب: لا زالت تقتنص المحامد بعاطاياه المكررة، وأوابد الصيد برماياه المقررة، ورقاب الإنس والوحش، إما بسهام نعمه المتواترة، وإما بسهام قسيه الموترة، ولا برحت نفحات مكارمه، تشهد أن المسك بعض دم الغزال، وسرحات عزائمه، تمتد في صيد الوحش لقرى نزيل أو في صيد الأعداء لتقرير نزال، تقبيلاً تتعطف أجياد الظباء لمحاولة عقوده، وتزدحم أفواه الأولياء على مشافهة وروده.
وينهي بعد ولاءٍ تقوم الخواطر الكريمة في دعواه مقام شهوده، وشوقٍ لا تزال النسمات الشمالية قاضيةً باستمرار وفوده- أن مشرف مولانا الكريم ورد على المملوك على يد فلان وصحبته الإنعام المتجدد، وإن كان قديماً في المعنى، واللحم القديد، وإن كان أطرى من الروض النضير حسناً، والسمين المحبوب وإن كان كحال عداه الذين تقدد جسومهم في الحياة قبل الممات حزناً، فقابل المملوك المشرف الكريم، بتقبيل أحرفه، والإنعام العميم، بقبول مسعده ومسعفه، وعانقهما بجوانح آماله، وأخذ الكتاب والبر كما يقال بيمينه وشماله، فيا لها من ظباءٍ تعشق وإن بليت محاسنها، وغزلانٍ تغازل وإن بادت عيونها إلا أنه ما باد حب من يعاينها، وصيودٍ توصف وإن قصدتها قصد السهام بطعن، ويتقى بقرونها القتال والقسي تالية: كَمْ أهْلَكْنَا من قَبْلِهِم مِنْ قَرْن. سلكت خيول مولانا لقنصها المصاعب واتخذها الآكلون سهلاً، وتصيدها من الفلاة وأصطادها القاعدون من المقلى، ووصل معه البطيخ الأخضر فشبهه بثمار الجنة المشبهون، وقيل: هكذا ترتيب مآكل الجنة لهم فيها فاكهةٌ ولحم طيرٍ مما يشتهون، لا زالت منن مولانا مشروحةً مشروعة، وثمرات نعمه من الدنيا كثمرات أهل الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة، بمنه وكرمه.
أجوبة هدايا الفواكه وما في معناها:
الشيخ جمال الدين بن نباتة: جواب وصول مشمش لؤلؤي ودغميشي من حماة.
بسط الله ظلها ونداها، وأطلع باليمن نجوم هديتها وهداها، ولا زالت مواهب بحرها لؤلؤية، وشواهد يمنها كوكبية، وثمرات جودها فضية الأعيان ذهبية، تقبيلاً حلت مواقعه، وجلت مطالعه.
وينهي بعد ولاءٍ وحمدٍ: هذا قد ثبتت في القلب شريعته وهذا قد عذبت في السمع مشارعه، أن مشرفة مولانا الكريمة وردت على المملوك تتضمن الحسن والإحسان ويمين البر الشامل لكل إنسان، وعهد المحبة التي حكمت فيه بعلمها القلوب فما تحتاج إلى بينة لسان، فقابلها المملوك مقبلاً، واستجلى وجه الود والإحسان مقبلاً، ووصل المشمش الذي شفى لؤلؤيه نظر الناظرين، ونوعه الآخر الدغميشي الذي هو الشهد بحسنه ولا يدغمش باسمه على الحاضرين، فتنأول المملوك عوارف بره المعروف والمبتكر، واستضاء نجومه المترددة منشداً قول المعري: كم درن، وكم يدرن هذه الأكر، وقال: شكر الله هذه المنن الحلوة الثمرات، المتصلة الخطرات، وهذه المجاني التي طابت أصولها وفروعها فلا أبعدهن الله من شجرات، وحيا حماة وما جلبت، وجنبات ذلك الوادي وما أنجبت، وحدائق ذلك العاصي الذي أطاع ببركة مولانا فأنبت أحلى وأحل ما نبت، وقد جهز المملوك هذه الخدمة منطويةً على وظائف الحمد المستجادة، ولطائف الحب المستفادة، وحمد المنن التي لا تزال من مولانا عادة ومن المحبين شهادة، لا برحت يد مولانا الكريمة إن بسطت فبعوائد إنعامها، وإن قبضت فعلى سيوفها لمصالح الدول وأقلامها، وإن زهت فروع المكارم، تساقطت ثمرات برها من زهرات أكمامها.
جواب بوصول مشمش وبطيخ حلبي، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة.
وينهي بعد ولاءٍ وثناءٍ: لهذا في الأسماع أزهى وأزهر ثمرة، ولهذا في القلوب أرسى وأرسخ شجرة- ورود المشرف الكريم على يد فلان بما ملأ السمع من أخبار مولانا المرتقبة سروراً، والعين من آثار يده الكريمة نوراً، والفم من هدايا المشمش الحموي كؤوس لذة كان مزاجها كافوراً، فقبل المملوك أسطره مستحلياً مواقع رشفاته، وقابله بعوائد المحامد مستجلياً عوائد افتقاداته وصلاته، ومد يده وفكره فالتقط النجوم المشرقة من هداياه وكلماته، وتقلد جواهر المبرات الحسنة والمحسنة، والثمرات التي جاءت بدرية القدوم وإن كانت نجومية الهيئات المكونة، واستصوب نتائج الغيث فقال: لعل هذه بنادق قوس السماء الملونة، وصفا وطاب ظاهرها وقلبها وكذا تكون صفات ذوي القلوب المؤمنة، والمؤمن حلوي لا جرم، والحموي على عجمه الخراساني أولى بفصاحة الفخار والكرم، لا زالت فعلات منن مولانا مستجادة ونعمه لا سيما المشمشية مستزادة، وافتقاداته المشهورة لدى مماليكه ومحبيه منه عادةً ومنهم شهادة، وجاءت فاكهة البطيخ الحلبي وقد رضع حلب الغمام فأنجب، واستوى باطنه وظاهره في الحسن فأعجب من حين أعشب، واستطاب الذوق والشم مطعمه وأنفاسه، ووصف بالرؤوس فضمه كل متلقٍ وقبل راسه، وقال: نعم الهدية السرية، والفاكهة التي طلعت حزز ها هلالية وثمرتها بدرية.
جوابٌ عن وصول بطيخ حلبي، من إنشائه أيضاً، وهو بعد الألقاب: وشكر سجاياه التي علت، وهداياه التي تكررت فحلت، وافتقاداته التي طاب ظاهرها وباطنها فكأنها من أخلاقه الجميلة نقلت، أصدرناها تهدي إليه سلاماً يتقدم كهديته نسيمه العاطر، وثناءً ينتج أطايب الثمر مقدمات غيثه الماطر، وتوضح لعلمه الكريم أن مكاتبته الكريمة وردت فحسنت بالود مشافهتها، وأقرت في الأسماع فاكهتها ومفاكهتها، ووصل البطيخ فلله در حلبه ودر جلبه، لقد حسنت في ملاذ المطاعم طريقته المرضية، ولقد أشبه القناديل بتكوينه وفتيلة عرقه فلا جرم أن قناديله عند الشكر مضية، ولقد ملأ خبره وخبره عين البصر وأذن المصيخ، ولقد خلق دواءً للأجسام حتى صح قول الحلبيين للأرمد: دواؤك البطيخ، فشكر الله إحسان الجناب العالي، وبره المتوالي، وعلى الوالد والولد ومن عندهما سلام المحب المتغالي، والله تعالى يحفظ عليهم من الفضل ما وهب، ويرزقهم بغير حساب ويرزق الظن فيهم ما حسب إن شاء الله تعالى.
وله أيضاً جواب بوصول بطيخ حلبي، وهو بعد الألقاب: وشكر إحسانه الذي حلا مذاقه، وزكت أعراقه، وحيا على البعد تحيةً طيبةً نفحت بها أزهار الكتاب وأثمرت أوراقه، هذه المفاوضة تهدي إليه سلاماً طيباً كهديته، وثناءً زاكياً كطويته، وتوضح لعلمه الكريم ورود مكاتبته الجامعة حسن الأقوال والأفعال، المطلعة بوارد غمامها أطيب الثمر في الحال، فأحيت ولاءً حاشى لوجوده من العدم، وجددت عهد البشر- وما بالعهد من قدم- ووصل البطيخ الحلبي أصله، الحموي فصله، الدمشقي ضمه وشمه وأكله، الفلكي ولا سيما من الأهلة المجتمعة شكله، فكرم مطلعاً، وحسن من الأفواه موقعاً، وعم الحاضرين نوالاً، واشتملهم بعطف الإحسان اشتمالاً، وأخذ الغلام السكين: متقارب.
فقطّع بالبرق شمس الضّحى ** ونأول كلّ هلالٍ هلالا

لا بل أهلة كثر تعدادها، وكرر تردادها، ورصد قربها، ولا نقول كما يقول أصحاب الهيئة أبعادها، فشكر الله إحسان الجناب العالي حاضراً وغائباً، وبره الذي يطلع كل وقت من هداياه وكتبه أهلةً وكواكباً، ومرباه الذي نقل عن ملوكٍ كانت منازلهم للمحامد روضاً وكانت أيديهم للكرم سحائباً، إن شاء الله تعالى.
وله جوابٌ بوصول قصب سكر وأتروجٍ وقلقاس: لا زالت أوصاف شيمها، تطرب كما يطرب القصب، وألطاف كرمها، مما يغذي الحسد وينعش الروح ويشفي الوصب، وأصناف نعمها من الحلو إلى الحامض مما يعدي الأيدي المتنأولة فهي على الأعداء تنتصب، تقبيل محبٍ حلت له المنن فتنأولها، ومواقع اللثم فعاج إليها وعاجلها.
وينهي ورود مشرف مولانا الكريم، على يد فلانٍ يتضمن الحسن والإحسان، والبر المأثور بكل فمٍ، المشكور بكل لسان، فقابله المملوك بما يجب من الخدمة لمثله، ولاقاه بعوائد تحمد عوائد فضله، ووصل قرينه الإنعام الذي تنوع فنوناً وأفناناً، وملأ فم الشراب خاناه سكراً ويد المطبخ إحساناً، وذكر نباته الطرابلسي عهود الديار المصرية، وأوقات الأنس بخدمة مولانا السنية، سقياً لها من أوقاتٍ وعهود، وشكراً لجود مولانا الذي هو في كل وادٍ موجود، ولتدبيره الشمسي الذي أحيا الله به على عباده عناصر هذا الوجود، ولا برحت مكارمه متنوعة، ونعم أياديه متفرعة، فمنها ما حلا فرعه فأصبح لكل حلو أصلاً، ومنها ما طاب ريحه وطعمه فكان للمؤمن مثلاً، ومنها ما لذ طعامه الشهي فما هو مما يهجر وإن كان مما يقلى.
وله جواب بوصول باكورة خيار وملوخية: لا زالت تشرح بمكارمها الصدور، وتفتح بركات الأعوام والشهور، وتمنح من لطائف مننها كل جماعةٍ السرور، وتلمح في هداياها المستبقة إلى الأولياء خيار الأمور، تقبيل محبٍ لا تغير ولاءه الدهور، ماشٍ من طريق المصافاة والموافاة في نورٍ على نور.
وينهي ورود مشرفة مولانا على يد فلانٍ تتضمن المعهود من ولائه وآلائه والمشهود المشهور من إحسان نداه قبل ندائه، فقابلها المملوك مقابلة الشيق إلى قرب الديار، الممضي في المحبة قلبه لمولاه قبل شرط الخيار، ووصلت لطائف هديته الخضرة النضرة، وطرائف الفضل الباكرة كمعاني اللفظ المبتكرة، فتنجز المملوك الفاكهة قبل أوانها البديع، ورصد من أفلاك العلب في ذي الحجة غرة ربيع، وتفاءل بالهدية المجمعة الأحباب في أن يعود الشمل وهو جميع، وقد عاد فلانٌ حاملاً من رسائل الشوق والشكر ما يؤديه بين أيدي مولانا الكريمة، ويجدد بذكراه عهود الأنس القديمة، لا برح مولانا سابق الكرم، مخضر المرابع ببيض النعم.
قلت: وكتبت جواباً لبعض الأصحاب وقد أهدى لي سمكاً بسيط:
أهدى لنا سمكاً قد طاب مطعمه ** أكرم به سمكاً لم يسكن البركا!

لا شكّ أنّ له بالبحر شاكلةً ** والبحر عادته أن يهدي السّمكا

الضرب الثالث من كتب التهادي: الاستهداء:
واعلم أن كل ما يكتب مع إهدائه قد يكتب مع استهدائه، إلا أن الغالب مما جرت به عادة الكتاب في الاستهداء طلب الأشياء المستظرفة الخفيفة المنة دون ما يعظم خطره، اللهم إلا أن يكون الاستهداء من الملوك ونحوهم فيطلب فيه ما جل وعظم.
والذي جرت عادة الكتاب بالكتابة في استهدائه على أصناف:
الصنف الأول- آلات الكتابة: من الأدوية والمداد والأقلام: مما تقدم ذكره في الإهداء.
أبو الفرج الببغاء في استهداء دواة: أنفس الذخائر وأشرف الآمال ما كان للفضل نسباً، وللصناعة والحظوة سبباً، وبالدوي تجتنى ثمرة الصناعة، ويحتلب در الكتابة، وقد أوحش المملوك الدهر مما كنت أقتنيه من نفائسها، وضايقه في وجود الرضي على الحقيقة منها، فإن رأى مولانا أن يميط ببعض ما يستخدمه من حاليها أو عاطلها سمة عطلة المملوك، ويسمح بإهدائها إلى أهل تصريفه ويقابل بالنجح والتقبل رغبته، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في استهداء مداد: التنافس- أيدك الله- في أدوات الكتابة وآلات الصناعة بحسب التفاخر في ظهور النعمة، والتخير لبيان الإمكان والقدرة، وإلا فسائر الدوي سواءٌ فيما تصدره الأقلام عنها، وتستمده بطون الكتب منها؛ وأولى آلاتها بأن تتوفر العناية عيه، وينصرف التخير بالضرورة إليه، المداد الذي هو ينبوع الآداب، وعتاد الكتاب، ومادة الأفهام، وشرب الأقلام، فجعلها الله بواجب القضية والحكم، في خير وصفه من الحمد والذم، وما زلت لنفائس الأخلاق موطناً، ولنجع الإخوان في المحل معدناً، ولا معدل بي عن استماحة خزائنك عمرها الله الممكن من جيده، فإن رأيت أن تستنقذ دواتي من خمول العطلة، وتنزه قلمي عن ظمأ الغلة، وتكشف عنها سمة النقصان والخلة، فعلت، إن شاء الله تعالى.
علي بن خلف، في مثله: أولى ما أنبسط في استهدائه، وتسمح نفسي في استماحته واستجدائه، ما كان ناقعاً لغلة الأقلام، مقيداً لشوارد الأفهام، محبراً لبرود البيان، حالياً في معارض الحسن والإحسان، وكتبت هذه الشكوى أطال الله بقاء سيدي.
الصنف الثاني- الشراب.
في استهداء مشروب.
أبو الفرج الببغاء: أنا- أيد الله سيدي- ومن سامحني الدهر بزيارته من إخواني وأوليائه، عضد الله جمعنا ببقائه، وقوف بحيث يقف بنا اختياره، من القبول والانبساط، ويرتضيه لنا إيثاره من الهم والسرور، لأن الأمر في ذلك مما يوليناه من المساعدة بالممكن من المشروب إليه، والاعتماد دون كل أحد في اجتماع شمل المسرة لنا به عليه، فإن رأى أن يكلني إلى أولى الظنين به وأحقهما بمأثور فتوته، فعل.
وله في مثله: ألطف المنن موضعاً، وأجلها من الأنفس موقعاً، ما عمر أوطان المسرة، وطرد عوارض الهم والفكرة، وجمع شمل المودة والألفة، وأدى إلى اجتناء ثمرة اللذة، وبذخائرك من المشروب مع هذه الأوصاف ما يسترق حر الشكر، ويحرز قصب السبق إلى الثناء وجميل الذكر، فإن رأيت أن تنجد بالممكن منه مروتي، على قضاء حق من أوجب المنة علي بزيارتي، فعلت.
وله في مثله: من كان للفضل نسباً، ولفلك الفتوة قطباً، لم تفزع القلوب من الهم إلا إليه، ولم تعول الأنفس في استماحة المسار إلا عليه، وقد طرقني من إخواني من كان الدهر يماطلني بزيارته، وينفس علي بقربه ومشاهدته، فصادفني من المشروب معسراً، ووجدت الانبساط في التماسه من غيرك علي متعذراً، وإلى تفضلك تفزع مروءتي في الإسعاف منه بما يلم شعث الألفة، ويجمع شمل المسرة، ويجعلنا لك في رق الاعتداد بالمنة، ويقضي عني بتفضلك حقوق المودة.
علي بن خلف: قد انتظم لنا- أطال الله بقاء سيدي- مجلسٌ واقفٌ بين النشاط والفتور، والكآبة والسرور، لغروب نجوم الخمر عن سمائه، وعطله من حلي نوره ولألائه، وقد عولنا في إطلاقه إلى إحدى الجهتين عليه، وجعلنا زمامه بيديه، فإن رأى أن يروح أفكارنا بشيءٍ من راحه المشابهة عبقاً وعتقاً لأخلاقه وأعراقه، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله: أفضل ما أهدى سيدي ما أهدى السرور إلى أحبته، ونظم شمل المتحققين بخدمته، وحسم عنهم هواجس الفكر، وأعداهم على الدهر، وقد جمعنا مجلسٌ وهبناه للثناء عليه، وزفت عرائس الخمر إليه، فإن رأى إيثارنا بما يكمل نشاطنا، ويتمم انبساطنا، فليعقر همومنا بشيءٍ من عقاره، وينظم جمعنا في سلك أياديه ومباره، إن شاء الله تعالى.
النوع الرابع: الشافعات والعنايات:
قال في مواد البيان: وهذه الكتب إنما تصدر عن ذوي الرتب والأخطار، والمنازل والأقدار، الذين يتوسل بجاههم إلى نيل المطلوب ودرك الرغائب.
قال: والملتمس فيها ممن تنفذ إليه أحد ثلاثة أنواع؛ إما بذلك ماله ولا يبذل ماله إلا ذو مروءة يفرض على نفسه حقاً فيه لقاصديه، وإما بذل جاهه وفي بذل الجاه إراقة ماء الوجه والتعرض لموقف الرد، وإما الاستنزال عن سخيمةٍ وموجدة في النزول عنهما كف حد الغضب وغض طرف الحنق، وهما صعبان إلا على من فضل حلمه، ولطف فهمه.
ثم قال: والكاتب يحتاج إلى التلطف فيهما وإيداعهما من الخطاب ما يخرج به الشافع عن صورة المثقل على المشفوع إليه بما كلفه إياه، ويؤدي إلى بلوغ غرض المشفوع له ونجاح مطلبه، ثم أتبع ذلك أن قال: وسبيل ما كان في استماحة المال، أن يبنى على الإبانة عن موقع الإفضال، وفضيلة النوال، واغتنام فرص الاقتدار، في معونة الأحرار، وما جارى هذا- وسبيل ما كان منهما في طلب الانتفاع بالجاه أن يبنى على الأريحية لاصطناع الصنائع، وتحمل المشاق في تقليد المنن، وادخار الفعل الحسن، واغتنام الأجر والشكر- وسبيل ما كان منهما في الاستنزال عن السخائم أن يبنى على الملاطفة، والإشارة إلى فضيلة الحلم والصفح عن الخاطئ، وما في ذلك من حسن السمعة في العاجلة، ومتوفر المثوبة في الآجلة، ونحو ذلك.
وذكر أن أحسن ما قصد في هذا الفن مسلك الإيجاز والاختصار، وأن يسلك به مسلك الرقاع القصار المجملة، لا الكتب الطوال المفصلة، وأن يرجع فيما يودعه إلى قدر الشافع والمشفوع فيه، والكاتب إذا كان مرتاضاً ماهراً لم يضل عن تنزيل كل شيء في منزلته، وترتيبه في مرتبته.
قلت: ومن أحسن ما يطابق هذا النوع ما رأيته في بعض المصنفات، أن عمرو بن مسعدة وزير المأمون كتب إلى المأمون في رقعة:
أما بعد، فإن فلاناً سألني أن أشفع له إلى أمير المؤمنين، فأخبرته أني لم أبلغ عند أمير المؤمنين مبلغ الشفاعة- فلما وصلت الرقعة إلى المأمون وقع عليها بخطه: قد فهمنا تصريحك به وتعريضك بنفسك، واجبناك إليهما وأتحفناك بهما.
من كلام المتقدمين: الحسن بن سهل: كتابي إليك كتاب معتنٍ بمن كتب له واثقٍ بمن كتب إليه، ولن يضيع حامله بين عناية وثقةٍ، والسلام.
أبو الحسين بن سعد: وقد توجه إليك فلانٌ بقصدٍ فيه مستجمع، وأملٍ فيما قبلك منبسط، وليس بعد إصابتك عنده موضعاً وعندنا متجملاً لليد الحسنة إلا افتراض ذلك منه ومنا في أمره على يسر في حاجته، وتخفيفٍ من مؤونته، فإن رأيت أن تأتي في ذلك بما يشبه أمله وظنه، وتوجب عليه الحق به، ونشكر لك منه ما يبقى عندنا، بأنك بحيث تأتي الفضل وتتوخى الصلة، فعلت إن شاء الله تعالى.
آخر: معرفتي بأنك لا تتجاوز في العقوبة سبيلها من مواقع الأدب، تحملني على مساءلتك ما أنت موجبٌ له والذكرى تنفع المؤمنين، ولولا ذلك لاستغنى صاحب كتابي عنه، فإن كان ذنبه صغيراً فالصغير يخرجه من حبسه، وإن كان كبيراً فالعفو يسعه. وكتابي متقاضٍ لك تقديم العفو على العقوبة، والحسنة على السيئة، والاستصلاح على القوة في التأديب.
طفال بن شبة: وأحق من يعطف على أهل البيوتات، ويجود لهم بما يبقى ذكره، ويحسن به ذخره، مثلك، وقد وجهت إليك فلاناً، وهو من ذوي قراباتي، وذوي الهيئة من أسرتي، وعرضته لمعروفك، وأحببت أن تلبسه نعمتك وتصرفه إلي وقد أودعتني وإياه ما تجده باقياً على البشر الجميل في الغيب والحضر.
ولغيره: وقد جعلك الله غياثاً، وجعل عندك لمؤمليك وراجي رفدك، أبلغ ذريعةٍ من كرمك وفضلك، وقد اصبحت مفزع كل ذي همٍ، وملجأ كل ذي أربٍ، وموضع كل أمل، وأصبحت ملتقى السبل، ومجمع الأصناف المختلفة، والطوائف المتصرفة.
أبو مسلم محمد بن بحر: قد شهرتني باصطناعك حتى تكافأ في معرفة خبرها أهل بلدان المشرق والمغرب، والذين عرفوني فصديقي منهم مغتبط بذلك لي، وشريكٌ في النعمة به علي، وقوي الظهر بما منحنيه الله من رأيك، وإذا نابت بعضهم نائبةٌ يرجوك لكشفها ولم يكن له إليك طريقٌ يدنيه ولا حرمةٌ تقربه وتعطفك عليه، سألني الشفاعة له إليك، ففعلت ذلك مدلاً بما أعتقده من الشكر على نعمتك عندي، والإخلاص في طاعتك المفروضة علي، واثقاً بتسويغك إياي ما رقيت إليه من درجة الشافع لغيره، والسائل؟ في طريقه وذوي الحق عليه، لتكون قد أكملت علي النعمة، ووكدت لدي العارفة، واستتممت عندي الصنيعة.
أبو الخطاب بن الصابي: أبسط الشفاعة وجهاً، وأقربها نجحاً، وأوقعها في القلوب، وأسرعها إلى القبول، ما وقع من أقسام ثلاثة؛ من إدلال السائل بحسن الظن، وارتياح المسؤول إلى فعل الخير، واستحقاق المسؤول فيه لقضاء الحق، فإذا اجتمع لها ذلك كانت الثقة بها زائدة، والفتوة لها رائدة، والفضل عليها قائماً، والنجح بها قادماً، وكان الشكر من أقل موجوداتها، والمنة من أجل مذخوراتها.
وله: إن دل المملوك فبصدق المودة، أو عول فعلى حسن النية، أو استظهر فبقديم الحرمة، أو استنصر فبكريم الرعاية، ووراء ذلك همةٌ من مولانا بعيدة المرامي، طويلة المساعي، شامخة الأنف، سابقة الطرف، توجد الآمال سراحاً، وتوسعها نجاحاً، وتأخذها خماصاً، وتردها بطاناً، وتوردها هزالاً وتصدرها سماناً، وثقةٌ مني قد أحكم عقدها الزمان، وأوثق شدها الامتحان، فصارت لأعراض المملوك رائدة، وفي قوة نفسه زائدة، فالمملوك من اجتماع هذه الأقسام، ووجوب ما تقتضيه من الأحكام، بين ظنٍ جميلٍ لا مجال للشك عليه، ويقينٍ صحيح لا وصول للارتياب إليه.
آخر: ولئن كان المملوك أسرف في مجالي التثقيل على مولانا، فإن المملوك لم يرد بعضاً من دواعي الأمل فيه، فإن المظنون من فتوة مولانا رائد الثقة بجميل نيته، ولن يعدم النجاح من اعتمد على الفتوة والثقة.
آخر: وينهي أن المملوك إن أدل، فبحقٍ لدى مولانا أكده، أو استرسل، فبفضلٍ منه عوده، وبين الدالة من المملوك والعادة من مولانا موضعٌ لنجاح الحاجة، وبلوغ الإفادة، وقد فعل المملوك ما تعلق به واثقاً بالكرم من مولانا، فليفعل مولانا ما يتعلق به محققاً للأمل فيه.
آخر: وينهي أن المملوك إن انبسط، فمدلٌ بالحرمة الوكيدة، ومعول على النية الكريمة، أو انقبض، فلهيبة الإقدام على مولانا ومراعاة التخفيف عنه، ولفضله فيما بين ذلك مسلك وغلبة تسلطٍ يدعوان إلى حسن الظن بمولانا، ويوثقان من وجود النجاح لديه.
آخر: بذلك الجاه في إعانة الضعيف، وإغاثة الملهوف، والترويح عن المضغوط، والتفريج عن المكروب المكدود، كبذل المال في إسعاف المعسر، وإسعاد المقتر، ومواساة المحروم، والتعطف على المزحوم، وما في الحالتين إلا ما الديانة له ضامنة، والمروءة له قائمة، والحق به مستوجب، والأجر به مكتسب، والصنيعة به معتقدة، والمثوبة به مدخرة.
آخر: وينهي أن حرمة الجوار من أوجب الحرمات حقاً، وأحكمها عقداً، وأخصها بالعناية، وأحقها بالرعاية، وما رعاها إلا ذو قدرٍ عظيم، وخلقٍ كريم، وأصلٍ عريق، وعهدٍ وثيق. وفلان ممن يضرب بدالتها، ويمت بوسيلتها، ويتخفر بذمتها، ويتعلق بعصمتها، ويعتدها وزراً مانعاً، وذخراً نافعاً، وعدةً موجودةً عند الحاجة، وله أمرٌ يذكره مشافهة، فإن رأى مولانا أن يحقق من ظنه ما كان جميلاً، ويصدق من أمله ما كان فضل مولانا إليه سبيلاً، فهو المعهود من إحسانه، والمؤمل من فضله.
آخر: من سافر إلى سيدي بأمله ورغبته، ومت إلى حضرته بوفادته وهجرته، فقد استغنى عن الشافع، وكفي أمر الوسائل والذرائع، وحامل كتابي هذا قد تجشم القدوم إليه، وتمسك بذمام الوفادة عليه، مع ما يتحقق به من حق المشاركة في الصناعة، ويستوجبه بفضيلة الكفاية والأمانة، وإنما أصدر المملوك هذه الخدمة عن يده ممهدة لأنسه، ومقويةً لنفسه، وإذا مثل بحضرته، ونظره بعين نباهته، فقد غني عن الشفاعة وبلغ الإرادة.
آخر: وينهي أن ما يفرضه مولانا لمن أمه بالرجاء، ومت له بإخلاص الحمد والثناء، من إدرار أخلاف الإفضال، وتحقيق الرغبات والآمال، يغني قاصديه عن الشفاعات والوسائل، ويكفي آميه تحمل الذرائع والمسائل، والواصل إليه بهذه الرقعة فلان، ومولانا يعرف حقه على المملوك وماله من الموات لديه، وقد توجه إلى حضرته، راجياً أن يلحفه من ظل سعادته ما يتكفل بمصلحته، ويقضي على الزمن بإعدائه ومعونته، ومولانا أحق من تولاه بحسن خلافته فيه، والتفضل على المملوك بتحقيق ما يرجيه.
آخر في معتقل: علم المملوك بأن مولانا لا يتعدى في العقاب موضع الإصلاح والتأديب، ولا يتجاوز في الغضب موقع التقويم والتهذيب، عملاً بالعدل، وتمسكاً بالفضل، يبعثه على تنبيهه لما أغفله، وانقياده لما أصله، وفلانٌ قد تطأول اعتقاله، فإن كان جرمه صغيراً فقد ظلم في القصاص، وإن كان كبيراً فقد استحق الخلاص، والمسؤول من إحسانه أن يعاود جميل عادته، ويراجع كريم شيمته، فيعمل في أمره بالعدل، إذا لم يره أهلاً للفضل، وإن كانت حقوقه متأكدة، وحرمته مؤكدة، فلا يحسن أن يضاع ويخفر، ولا ينبغي أن يجحد وينكر، وهو حريٌ أن يحقق الظن فيه، ويقابل هذا السؤال بما يقتضيه.
آخر: على حسب أخطار الودائع يكون الإشفاق عليها، والشكر ممن صرف رعايته إليها، وقد كان المملوك أودع كنف مروءته، وفناء همته، فلان، وهو درة المحاسن الفريدة، ونادرة الدهر الشريدة، والجامع لأسباب المحامد بفضائله ومناقبه، والناظم لنثار المآثر بخلقه وأدبه، مع ما خص به من المعرفة بقدر الصنيعة، والتعويض بالشكر عن قليل العارفة، والمملوك يرجو أن يكون مولانا قد أحسن خلافته فيه، ونزله من حياطته وتوليه، بما يوجبه مكانه من المملوك ويقتضيه، متعوضاً من شكر المملوك وشكره بما هو خليقٌ أن يطوق أجياد معاليه، وينتظم في سلك مساعيه.
رقعة- وينهي أن الأيام، إذا قعدت بالكرام، فأنزلتهم بعد السعة ضيقاً، أوجدتهم إلى التثقيل على من يمتون إليه بسالف الخدمة طريقاً، وممن تحداه الزمن بنكده، وعوضه ببؤسه من رغده، فلان، وكان قد فزع إلى جماعة من الخلان، واثقاً منهم بالامتنان والإحسان، فألفى وعداً جميلاً، ومطلاً طويلاً، فعدل عنهم إلى سيدي وعزل عنهم إليه، وتوجه إليه معتمداً بعد الله في مقصده عليه، ثقةً بفضل غيره، وحسن أثره، وتحمل عبودية المملوك هذه ذريعةً تبسط له من مولانا محياه، وتوصله إلى ما يرجوه من معروفه ونداه. وما أولى مولانا بأن يحقق ظن المملوك وظنه، ويجوز شكره وشكره، إن شاء الله تعالى.
رقعة- وينهي أن رغبة سيدي في إسداء المعروف، وغوث الملهوف، تبعث على السفر إليه، والتقدم بالرغبات عليه، والله تعالى يواصل المنح لديه، كما وصلها من يديه، وقد سبقت له عوارف لا ينساها المملوك، ولا يؤمل جزاءها إلا بمرفوع الدعاء، وكريم الثناء، حتى تقتضي ضرائرها، وتستدعي نظائرها، وحامل عبوديتي هذه، فلان، والمملوك يرضى لمولانا لسان شكره، كما يرضاه لتحمل بره، وقد ركض ظهر الأمل إلى حضرته، ووثق ببلوغ الوطر من جهته، وأن ينظم في سلك من أسبغت عليه عوارفه، وعمته لطائفه، وعزز ذلك باستصحاب كتاب المملوك إلى بابه، وتقديمه ذريعةً في التزام حقه وإيجابه.
رقعة- من كان سيدي شافعه انبسط في المنى، ولم يرض بغير العلا، وقد علم مولانا أن للشفاعة أحوالاً ثلاثاً؛ حالاً تخص الشافع، وحالاً تخص المستشفع، وحالاً تخص المشفوع إليه ولكلٍ حد يجب الانتهاء إليه، ولا يجوز التقصير فيه، فعلى المستشفع ارتياد أخصب جناب، وأسكب سحاب، وقصد الجهة التي لا تصد عن البغية سائلاً، ولا ترد عن الأمل آملاً، وأن ينهض بالشكر على العارفة، ويحدث بالنعم عنه في الأحوال الطارفة، وعلى الشافع أن يهريق ماء وجهه في السؤال، ويجرد رغبته في تسهيل المنال، ويعتقد أن ذلك من الدين المقترض، والدين المفترض، ويتكفل بالقيام بما يستدعي منه من المكافاة، ويلتمس من العوض والمجازاة. وعلى المشفوع إليه أن يعلم أن الشافع والمستشفع ما قصداه إلا بعد الثقة بأحديته، ولا اعتمداه إلا بعد السكون إلى أريحيته، وأنه لا ينبغي أن يخسر متجرهما، ولا يضيع سفرهما، وقد اجتمعت هذه الأحوال الثلاث للرئيس المشفوع إليه، ولسيدي الشافع، ولخادمه المستشفع به، ولم يبق إلا عزمةٌ منه تهز أفنان الإقبال فتساقط أثمارها، وتنشئ عوارض الآمال فيتهافت قطارها.
أبو الفرج الببغاء: وموصل كتابي هذا غنيٌ عن شفاعتي له بما يمت من حرمات الرغبة إليك، والوقوف دون كل مقصدٍ عليك، وبما يشفع ذلك من التقدم في الصناعة، والتوصل بوجيه الكفاية، وإنما زودته هذه الأحرف لأفتح له باب الأنسة، وأسهل السبل إلى التعلق بالخلة، وأدل بها على ما تكشف منه المطأولة والخيرة، وأنت أيدك الله ولي التطول بالتقدم في إيناسه وبسطه في الخدمة بما يستزيد له محمود الأثر فيها من حسن النظر وجميل الرأي.
وله في مثله: وموصل كتابي فيما يؤمله منك ويبلغه بك متمسكٌ من رجائك بأوكد ذمة، ومن شفاعتي بأوجب حرمة، ومهما مت به بعد ذلك من ظهور كفاية أو تقدم في صناعةٍ كان غير ضائع عند رعايتك، ولا مجهولٍ مع تيقظ عنايتك، وأرجو أن يحل من تقبلك، بحيث أحله حسن النظر بتطولك.
وله في مثله: وفي علمك ما آخذ به نفسي، وأروض به أخلاقي، من الانقباض عن التسرع إلى مسألةٍ، والاحتشام من الانبساط في حاجةٍ، ما دلك على موضع فلانٍ ومكانه من إيثاري بواجبات حقوقه، وسالف مواته، ولذلك سمحت بالكتاب له إليك، وفارقت رسمي بالتثقيل في قضاء حقة عليك، وقد قصد نحوك بأمله، واختارك لرجائه، وقدر بك بلوغ البغية، واختصر بشفاعتي إلى تفضلك السبيل إلى إدراك المحبة، فإن رأيت أن تأتي في بابه ما يشبه فضلك، ويناسب وكيد ثقته بك، وأني أشركه في الشكر وأساهمه في الاعتداد، فعلت.
آخر متقارب:
رأيت المساكين قد أجمعوا ** على أنّك الوزر المعتمد

فأنت لطفلهم والدٌ ** وأنت لشيخهم كالولد

السلام العميم ورحمة الله وبركاته على من جعله الله للمساكين ظلاً يقيهم، وطلاً يسقيهم، ونعمةً تعمهم، ورحمةً تضمهم، أبو فلان، أبقاه الله في عزةٍ تالدةٍ طارفة، وسعادةٍ لا تزال طارقةً بكل عارفة.
من أقامه الله مقامك أيها الشيخ المبرور بالترفق بالفقراء، والإحسان إلى الضعفاء، لم يعدم مريضاً يقصده في الشفاء، ولا يعدم فيضاً يعتمده للاكتفاء، لا سيما إذا توسل وحده، وتشفع بمن لا يضيع عمل عاملٍ عنده، ومتحملها فلان قص الفقر جناحه، وأخنى عليه الدهر واجتاحه، ولما رأى الفقراء ببركم مرتفقين، وعلى شكركم متفقين، أمكم حسن الظن بالمن، ولم يقدم شفيعاً دنيوياً، ولا طريقاً واضحاً سوياً، وأنت أيها الشيخ الموقر تنزلونه منزلة سواه، ممن ثوى مثواه، ونوى فيكم من الأجر والشكر ما نواه، إن شاء الله تعالى، والسلام الكريم العميم، يخص جنابكم ورحمة الله وبركاته بسيط:
فالله سبحانه يبقيك في دعةٍ ** وحسن حالٍ وتيسيرٍ وإقبال

مقدم المجد في عزٍ وفي كرم ** مؤمل النفع من جاهٍ ومن مال

الشفاعات من كلام المتأخرين:
الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: شفاعةٌ في استخدام كاتب درج: جعل الله تعالى دوره رحبة العراص، وسعادته في الازدياد وأعاديه في الانتقاص، والدعاء لإحسانه مقروناً بصدق النية والإخلاص طويل:
وهذا دعاءٌ لو سكتّ كفيته ** فإنّي سألت الله فيك وقد فعل

صدرت هذه الخدمة تستمطر سحاب كرمه، وهامي ديمه، وتسأل جميل شيمه، في معنى مملوك المولى وداعيه، والشاكر لأياديه، والملازم على رواية أخبار فضائله وبثها، ونشر تفضلاته ونثها، فإنه من بيتٍ كريم النجار، زائد الفخار، وله على مولانا حق خدمه، وهو يمت بسالف معرفة، ومحبة المملوك له شديدة، والصحبة بينهما قديمةٌ وشقة المودة جديدة، ولولا ذلك ما ثقل على خدمته، وتهجم على المولى بمكاتبته، وقد توجه إلى بابه العالي مهاجراً، وناداه لسان جوده فلباه وأجابه مبادراً، وغرضه أن يكون كاتباً بين يديه، ومملوكاً تقع عين العناية عليه، وهو من الكرام الكاتبين، والراغبين في الانتظام في سلك خدمه والمؤثرين، وصفاته بالجميل موصوفة، وفصاحته معروفة، وقلمه الذي يقلم ظفر المهمات ويكف كف الحدثان، ولسانه الذي يغني بشباته عن حد السنان، ورأيه المقدم في الهيجاء على شجاعة الشجعان، فإذا أنعم المولى باستخدامه، وتحقيق مرامه، كان قد وضع الشيء في محله، وصنع المعروف مع أهله، وبيض وجه المملوك وشفاعته، وصدق الأمل في إحسانه ومروءته، ورأيه العالي، إن شاء الله تعالى.
وله شفاعة في استخدام جندي: لا زال بره مطلوباً، وجوده مخطوباً، وذكر إحسانه في الملإ الأعلى مكتوباً، ولا برحت رياض جوده أزهر وأنضر من روض الربا، ويده البيضاء ترقم له في سواد القلوب سطور حمدٍ أحسن من نور تفتحه الصبا. هذه الخدمة صدرت على يد فلان تهدي إلى المولى سلام المملوك وتحيته، ودعاءه الصالح الذي أخلص فيه نيته، وتشفع إليه في تنزيله في الحلقة المنصورة واستخدامه، وترتيبه في سلك جيشه المؤيد وانتظامه، فإنه من الأجناد الجياد، وذوي الجلد على الجلاد، وهو الغشمشم الذي لا يرد، والشهم الذي لا يصد، والباسل الذي لا تحصر بسالته بوصف ولا تحد، والنقيب الميمون الغرة والنقيبة، الموصوف في الهيجاء بحزم الكهول وجهل ذوي الشبيبة، والمولى وإن كان بحمد الله غير محتاجٍ إلى مساعد، ولا مفتقرٍ إلى معاضد، فإن أسنته لا تحتجب عن روج محتجب ونفسه الشريفة تقوم وحدها يوم الكفاح مقام عسكرٍ لجب، وقلبه يغنيه عن الأطلاب والأبطال، وجيوش سطوته لا تكلفه المقام في منازل النزال، فإن المملوك يعلم أن نفسه الشريفة تهوى تزيد عسكره وجنده، وترعى حرمة قاصده وقصده، فلهذا توسل بشفع وتر الشافعة، وتوصل إلى إزالة ضرع حاله بكثرة الضراعة، فإذا أنعم بقبول شفاعة المملوك فيه، وحقق له من العناية ما يؤمله ويرتجيه، كان قد شد للمشار إليه، ما أضعفته العطلة من منته، وقلد المملوك جميل منته.
شفاعة في رد معزول إلى ولايته: يقبل اليد العالية لا زالت مقبلة، ولإسداء الخير إلى أهله مؤهلة، وبأياديها على الكافة متفضلة.
وينهي ملازمته على شكر مواهبه، ونشر فضائله الجسيمة ومناقبه، وحمده كريم شيمه، والاعتذار من تثقيله على خدمة المولى بخدمه وسؤال إنعامه بوجوه مكاتبته ولسان قلمه، وما ذاك إلا لما يتحققه من كريم نجاره، وشدة تطلبه لإسداء العوارف وإيثاره، والموجب لهذه الوسيلة وسؤال مكارمه، واستمطار سحائب مراحمه، ما بلغه من عزل مملوك المولى وعبده، وواصف جميل أوصافه بلسان شكره وحمده فلان، أفاض الله عليه إحسان المولى وإنعامه، وخلد لنا وله دولته وأيامه، فإنه صاحب المملوك وصديقه، وشريكه في الدعاء لمولانا ورفيقه، وهو من العدول الأمناء، والثقات الاتقياء، وهو قليل الجدة كثير العيال، لا يجد حيلةً إذا بطل بخلاف ما يحكى عن البطال، وقد تشفع بالمملوك ومكاتبته في ملاحظة المولى له بعين عنايته، والتقدم برده إلى جهة ولايته، فلهذا كتب إليه وأكد في معناه السؤال وعلق بتحصيل أمله الآمال، يعلم ذلك موفقاً.
شفاعة في خلاص مسجون:
فسح الله في مدته، وسهل أداء ما يجب من شكر نعمته، وألزم الألسنة بحمده والقلوب بمحبته، وجعله مفرجاً كل كرب، ومسهلاً من المقاصد كل صعب.
وبعد، فإن كافة الأمة قد تحققت رحمة قلب المولى ورأفته، وتيقنت إحسانه ومروءته، وأنه يؤثر إعانة كل عانٍ وإغاثة كل ملهوف، وأنه لا يمسك إلا بالإحسان ولا يسرح إلا بالمعروف، بحيث سارت بحسن سيرته الركاب عوضاً عن الركبان، ودرأت مكارمه عن الأولياء نوب الزمان، وعلا على حاتم فلو تشبه بكرمه لقلنا له: مورعًى ولا كالسعدان. وللملوك من إحسانه أوفر نصيب، وهو يرفل من جوده في ثوبٍ قشيب، وقد اشتهر ما يعامل به من الإكرام، وأن قسمه من العناية أوفر الأقسام، وكان يعد من جملة العبيد فأصبح مضافاً إلى الألزام، وهذا مما يوجب على المملوك أن يبتهل إلى الله في تخليد دولته ويتضرع، وعلى حلم مولانا أنه إذا شفع إليه في مذنب أن يشفع، وهو يشفع إليه في مملوكه وعبده، والملازم على رفع رايات مجده وتلاوة آيات حمده، فلان، رزقه الله رضا الخواطر الشريفة، وأسبل عليه حلة عفوه المنيفة على الحلل بظلالها الكثيفة، فإنه قد طالت مدة حبسه، واعترف بأنه الجاني على نفسه، والمعترف بذنبه كمن لا أذنب، والمغترف من بحر جوده يروى دون أن يشرب، والطالب لبره ينال سوله والمطلب، فإن حسن في رأيه العالي زاده الله علاءً وضاعف له سناءً، المشي على منار جوده ومنهاجه، وبروز أمره المطاع بإطلاقه وإخراجه، اغتنم أجره، وجبر كسره، وربح في هذا الشهر المبارك دعاءه الصالح وشكره، وكان قد أنعم على المملوك بقبول شفاعته إليه، وفعل ما يوجب على كل مسلم الثناء عليه، والله الموفق.
شفاعة بسبب خلاص حق:
يخدم المجلس السامي لافتيء بالتحيات مخدوماً، وحبل سعده مبروماً، ودر المدائح لجيد جوده منظوماً، وعدله بين الأخصام قاضياً فما يترك ظالماً ولا مظلوماً. ولا زالت الآمال متعلقةً بهمته، منوطةً بسعيد عزمته، راجيةً خلاص كل حقٍ ممن هو في جهته، وتوضح لعلمه أن فلاناً أدام الله سعادته، وخلد سيادته، ذكر أن له ديناً، في جهة غريم مماطلٍ مدافع، وخصم ممانع، وقد جعل هذه الخدمة ذريعةً إلى خلاص حقه، وخالها إلى الوصول إلى عناية المولى أقرب طرقه، وهو جديرٌ بالتقدم بإحضار غريمه ومحاققته، وأخذ ما للمملوك في ذمته، وأن لا يفسح له في تأخيره، ولا يسمح بقليل الصبر ولا كثيره، فإنه يعلم أن المولى المشار إليه واجب الخدمة، وافر الحرمة، وقد تعلق أمله في خلاص حقه بالمولى، ولا يجاوب عن هذه الخدمة بلو ولولا، بل يبذل جهده، ويطلق في تحصيل الغرض لسان الاجتهاد ويده، ويعتمد من الاهتمام ما يليق بأمثاله، ويبيض وجه الشافع وسؤاله، موفقاً. شعر طويل:
ولو كان لي في حاجتي ألف شافع ** لما كان فيهم مثل جودك شافع

شفاعة فيمن أسمه سراج الدين إلى من اسمه جمال الدين: الشيخ جمال الدين بن نباتة: وينهي بعد ولاء يحكم على القلوب شافع جماله، وثناءٍ يجر على أكمام الزهر فضل أذياله، أن العلوم الكريمة محيطةٌ بإيجاب حق من هاجر إلى بابها، وشكا غلة الفاقة إلى منهل منهل سحابها، وأن الماثل بهذه الخدمة، فلان، ذكر احتياجه إلى عاطفةٍ من عواطف مولانا التي شملت، وعارفةٍ من عوارفه التي لو استمدت من غررها الليالي لما أظلمت ولا ظلمت، وأن بيده وظيفة شهادة بيت لحم بتواقيع شريفةٍ نظرت في حاله، ونشرت حال عياله وأطفاله، وأن ثم من ينازعه في جهته المعتادة، ويقصد نزعه والنزع عن تلك الشهادة المسطرة أخف من نزع الشهادة، ومولانا أول من رحم منه ضعفاً، واشتمل عليه عطفاً، ودارك بكرمه هذا السراج قبل أن يطفى، ورعى سيرة مباشرته الحسنة الآثار، واغتنم أدعيته وأدعية أولاده الذين هم كقطع الشطرنج صغارٌ وكبار، وكف يد التعرض إليه في أيام عدله فإنها أيامٌ لا ضرر فيها ولا ضرار، وعلى الجملة فقد تركته الأيام قطعة لحم، فمباشرة بيت لحم أولى به، ورجاله فرجانية وأخواتها أحق أن يتعلق سببها بأسبابه، والله تعالى ينير بمنن مولانا أحوال المضرورين فإنها ظلام، وينصرهم على حرب الأيام بسيوفه التي هي أقلام، ويمتع بأيام عدله وإحسانه التي تتنافس فيها أعمار الرعايا فإنهم يتبعون أياماً بأعوام.
وله إلى شخصٍ اسمه شمس الدين:
وينهي بعد قيامٍ بوظائف ثناءٍ يتمسك بنفحاته المتوالية، وولاء يتمسك بحباله المتينة وما كل شمسٍ حبالها واهية، أنه يرتاد الأوقات لخطاب مولانا بالأقلام، حيث حبس البعد خطاب الكلام، ويتخير حملة رسائل الشوق، وإن أضعف عطف النسيم رسائل السلام، ولما حضر من مكان كذا، عارض هذه الخدمة فلان، وذكر توجهه إلى حمى حماة المحروسة، وقصد كتاباً يكون في وحشة الاغتراب أنيسه، فوافق ذلك غرض المملوك، وسلك طريق مراده ولا ينكر من جهة هذا الرجل الصالح السلوك، فأعلمته أن المكارم الحمادية لا تحتاج غير الحمد والأجر شافعاً إليها، والمنازل الشمسية لا تفتقر إلى دليلٍ ينبه عليها، وطالما جمعت لقاصدها الفعل والقول السخي، وطالما قال يوسف رحمه الله، أخو مولانا أبقاه الله للقاصد: أنا يوسف وهذا أخي، ولكن المملوك يذكر الخاطر الكريم بهذا القادم فإنه من أهله، ويلقاه قبل ذلك بالبشر المنشد طويل:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله

فإنه من أصحاب وليٍ لله طالما فاض ولي معروفه، واستفاضت نسبته المرشدية فكان ولياً مرشداً قامت صفته مقام موصوفه، وإن آثار هذه البركات على هذا القادم لائحة، وإن على يده تجارة ذكر وأجر وهي في سوق همم مولانا تجارةٌ رابحة، والله تعالى يجعل له في كل ثناءٍ وثواب نصيباً ويديم قلمه الكريم مقصد رفد وجاهٍ فطوراً رشاءً وطوراً قليباً.
وله: عن نائب الشام إلى نائب حماة شفاعةٌ في شخصٍ اسمه شهاب الدين، وهو بعد الألقاب: لا زالت الأقدار تسعده، والملائكة تنجده، ومواطن النصر تجرد حد بأسه ومواطن الحلم تغمده، والجناة تلوذ بظله، فأي جاني ذنبٍ ما يعفو عنه، وأي جاني بر ما يرق عليه ويرفده، تقبيلاً يترادف مدده، ولا تنتهي في القرب والبعد مدده.
وينهي بعد ولاءٍ وثناء: هذا لا يبلى جديده وهذا لا تخفى جدده، وشوق وارتياحٍ كلاهما يروى عن ابن شهاب توقده، ويحمل على يد شهاب سنده، أن العلوم الكريمة محيطةٌ بمقدار الحلم وفضله، والعفو ومحله، والتجاوز عن هفوات المخطئين من القوم، وطلب العفو من الله غداً بالعفو عن عباده اليوم، قال الله تعالى: وَلْيَعْفُوا ولْيَصْفَحُوا ألاَ تُحِبُّونَ أنْ يغْفِرَ اللَّهُ لكُمْ. ولما سمع الصديق رضي الله عنه هذه الآية، قال: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي ثم عفا عمن نزلت بسببه، ومملوك مولانا أعز الله أنصاره فلان، قد اعترف بهفوةٍ بدت منه، وزلة نقلت عنه، ما يسعها إلا عفو مولانا ومراحمه، وقدم على المملوك فكأنه ما خرج عن ظل مولانا ولا فارقته معالمه، وسأل سؤال مولانا أن يشمله بالعفو، ويتجاوز له عن السهو، ويرحم كبر سنه وكبيرة جهله، ويرعى قدم هجرته لخدمة هذا الباب الذي نشأ عمراً طويلاً في ظله، أهلاً لأن تشمله عواطف أهله، وهو- كما عرف المملوك واطلع عليه حيث كان في نيابة حماة- مشكور السيرة بالاعتبار، ناهض الخدمة بالاختبار، ملازمٌ لثرى الباب بعزمٍ ما عليه غبار، وله على المملوك بالأمس حق خدمة وباليوم حق سؤال يشفع بهما في القلوب وهي كبار، والمسؤول من صدقات مولانا تجاوزه عن هفوته، ورده إلى أمنه ووظيفته، وإجراؤه على عادة إقطاعه، وحشاه في أيام مولانا أن يقطع، بل حاشى المذكور أن يستخبر وأن لا يقطع، واستقراره في مكان خدمته، وإجابة سؤال المملوك في كل ما يتعلق بنجاح هجرته وعزمته، لا برح مولانا مأمول المنن الغائبة والحاضرة، والمقيمة والسائرة، مأهول الخواطر برفع ذكره وقدره في الدنيا والآخرة.
الشيخ جمال الدين بن نباتة:
لا زالت المحامد بذكرها متوجة، ومقدمات الفضل والفضائل من تلقاء شيمها منتجة، ومطالع الكرم والإكرام هاديةً إلى حرمها من اتجه، تقبيل مواظبٍ على الدعاء يرفعه، والولاء يجمعه، والثناء يقول بضاع أرجه لا مما نضيع بل مما نضوعه، وينهي أن عارض هذه الخدمة على عارض كرم مولانا الممطر، وبابه الذي هو لكبد الحاسد وفم الوارد مفطر، فلان، لقضاء تعلقاتٍ له أولها التعلق بحبل رجائه المحصد، وانتمائه المرصد، والتجمل بقصد بابٍ مولانا الذي هو المهم المقدم على كل مقصد، وهو من الفضلاء الذين يعرفهم انتقاد مولانا معرفة الخبير، وله اتصالٌ بالأكابر الذين سلم منهم زمام المفاخر كل كبير، وقصد من المملوك هذه الخدمة لمولانا تؤنس اغترابه، وتنشد المقر الذي ما قرع سن الندامة من قرع بابه خفيف:
يا غريب الصّفات حقٌّ لمن كا ** ن غريباً أن يرحم الغرباء

والمملوك يسأل من إحسان مولانا ملاحظة المذكور بعين عنايته التي ما أغفت عن القاصدين ولا غفلت، وعواطفه التي طالما فتحت أبوابها فأثنت عليها الركائب التي قفلت؛ والله تعالى يديم تقليد الأعناق بكلمه وبره، ويمتع الممالك الساحلية بما قذف لها من درر بحره.
النوع الخامس: التشوق:
قال في مواد البيان: وينبغي للكاتب أن يجمع لها فكره، ويظهر فيها صناعته، ويأخذ في نظمها مأخذاً من اللطافة والرقة يدل على تمازج الأرواح، وأتلاف القلوب، وما يجري هذا المجرى، وأن يستخدم لها أعذب لفظٍ وألطف معنًى، ويذهب فيها مذهب الإيجاز والاختصار، ويعدل عن سبل الإطناب والإكثار، لئلا يستغرق جزءاً كبيراً من الكتاب فيمل ويضجر، وينتظم في سلك الملق والتكلف اللذين لا يعتادهما المتصافون من الأصدقاء.
وهذه نسخٌ من ذلك: أبو الفرج الببغاء: شوق المملوك إلا مولانا بحسب مكانه من تفضله، وحظه من جميل نظره، واختصاصه بإنعامه، واغتباطه بشرف خدمته، ومكانه من إيثاره، والله يجمع للمملوك شمل السعادة بمشاهدة حضرته، وماله من الدهر بالنظر إلى غرته، على الحال السارة فيه وبه.
وله: شوق المملوك إليه شوق الظمآن إلى القطر، والساري إلى غرة الفجر.
وله: شوقي إليه شوق من لم يجد مع بعده عوضاً عنه، فتقوده الزيادة إلى الانصراف بالرغبة عنه.
وله: شوقي إليه شوق من فقد بالكره سكنه، وفارق بالضرورة وطنه.
وله: لو كان ما يصدره من خطاب، ويناجيه به من متضمن كتاب، بقدر ما أعانيه من ألم الشوق إلى غرته، ومضض الفائت من مشاهدته، لما أحاطت بذكره بسطة لسان، ولا ناب في إثباته استخدام بنان.
وله: أما الدهر فما يستحق من إبعاد المملوك عنه عتباً، ولا يعد ما جناه من ذلك ذنباً، إذ كان إنما نقل من حشمة المخاطبه، إلى انبساط المكاتبة.
وله: وقدره- أبقاه الله تعالى- يرتفع عن ذكر الشوق إليه، فالمملوك يعبر عنه بذكر الشوق إلى ما فارقه من تفضله، وبعد عنه من أوطان تطوله.
وله: ولولا أن المملوك يخمد نار الاشتياق، ويبرد أوار الفراق، بالتخيل الممثل لمن نأت محلته، والتفكر المصور لمن بعدت شقته، لألهبت أنفاسه، وأسعرت حواسه، وهمت دموعه، وأنقضت ضلوعه، والله المحمود على ما وفق له من تمازج الأرواح، عند تباين الأشباح.
وله: ولا بد أن يكف بالمكاتبات، من غرب الاشتياق، ويستعين بأنس المراسلات، على وحشة الفراق، فإنها ألسنٌ ناطقة، وعيونٌ على البعد رامقة.
وله: عند المملوك لمولانا خيالٌ مقيم، لا يبرح ولا يريم، يجلو عليه صورته، ويطلع على عين فكرته طلعته، إن سهر المملوك سامر معيناً على السهاد، أو رقد تصور معذباً طعم الرقاد، لا يمطله بزيارته، ولا يوحشه بغيبته، كأنما تصور بصورته في الوفاء، وتخلق بخلقه في المحافظة على الإخاء.
وله: إن تزايلت الأشباح، فقد تواصلت الأرواح، وإن نزحت الأشخاص وبعدت، فقد دنت الأنفس وتقاربت، فلا تمض الفرقة وتؤلم، وتنغص النوى وتكلم، وقد ينال بتناجي الضمائر، وتحاور السرائر، ما لا تصل إليه الإشارة، ولا تدل عليه العبارة، إذ الأنفس البسيطة أرق مسرًى، وأبعد من الألسنة مرمًى.
التشوق من كلام المتأخرين:
نسخة كتاب من ذلك، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو بعد الصدر: لا زال الدهر يقضي خدمه، ويمضي رأيه وسيفه وقلمه، ويرضي الدول الشاكرة تقديمه فيها وقدمه، ولا برحت الأقدار المعربة تجزم أمره وتكسره ضده وترفع علمه، تقبيلاً إذا لثم الترب التثمه، وإذا أودع القلب في ذلك الترب ختمه.
وينهي مواظبته على ولاءٍ لا ينسخ البعد محكمه، ودعاءٍ يقابل النجوم ولا تنقطع من القبول إدراراته المنجمة.
وينهي أنه سطرها عن شوقٍ يعز عليه أن ينوب فيه سعي القلم، عن سعي القدم، وارتياح إلى القرب الذي بأنسه يؤنسه أنواراً على أعلى علم، وتطلعٍ لمعاودة الأخبار أوفى من تطلع العامري إلى معاودة أيام ذي سلم، وتعلل بقول القائل وافر.
بعثت لكم سواداً في بياضٍ ** لأنظركم بشيءٍ مثل عيني

وهيهات! أين نظرات الحروف المرموقة من نظرات العيون الرامقة، وأين منال السلو من شجو يقول بسيط:
أعيذها نظراتٍ منك صادقةً.
ما يحسب المملوك من النظر إلا ما يملأ العين من ذلك الوجه الكريم، ولا يلبس من خلع الأيام إلا ما تخيط الأهداب على شبا ذلك القرب الرقيم، وعلى ذلك فقد جهزها المملوك على يد فلان، وحمله من رسائل الشوق ما يرجو أن ينهض فيه بأعباء الرسالة، ويسأل الإصغاء والملاحظة فيما توجه فيه وإن أدت الأمالي إلى الملالة، والله تعالى المسؤول أن يبلغ في امتدادها مولانا الأمنية، ويمتع الدول منه بهذه البقية النقية، إن شاء الله تعالى.
نسخة كتاب في المعنى عن نائب الشام، إلى القاضي علاء الدين بن فضل الله، كاتب السر بالأبواب السلطانية، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة أيضاً، وهو بعد الألقاب: لا زال قلمها مفتاح الرزق لطالبه، والجاه لكاسبه، والظفر لمستنيب كتبها عن كتائبه، والنجح لرائد مطالبة الدهر بعد المطال به، ولا برح البأس والكرم يتحدثان عن بحرها ولا حرج عن عجائبه، تقبيلاً تغبطه في مرابعها، ثغور الأزاهر، لا بل تحسده في مطالعها، ثغور الزواهر.
وينهي بعد دعاءٍ أحسنت فيه الألسنة وأخلصت الضمائر، وولاءٍ وثناءٍ لهما مصاعد النجمين إلا أن هذا في القلوب واقعٌ وهذا في الآفاق طائر- أنه جهز هذه الخدمة معربةً عن شوقٍ يتجدد، وارتياحٍ لا يتعدى ولا يتعدد، ساعيةً عنه بخطوات الأقلام، أن منع الوقت خطوات الأقدام، نائبةً في تقبيل الأنامل التي تستسقى ديمها على القرب والبعد ولا كيد ولا كرامة للغمام، وجهزها على يد فلان بعد أن حمله من رسائل الشوق ما إن حملنا من إحسانه لينضي عقود الأنجم لو تعددت، ومفاتيح أبوابه لتنوء بالعصبة أولي القوة لو تجسدت، وهو بين يديه يقدم نجواها، ويستشهد بالخاطر الكريم قبل حضور دعواها، والمسؤول إصغاء السمع الكريم إليه، والملاحظة فيما توجه يه متكلاً على الله وعليه، وإذا عاد مشمولاً بعناية مولانا المعهودة، مكفولاً برعايته المقصورة على نجح الآمال الممدودة، فلينعم على المملوك من المشرفات الكريمة بما يسكن على جور البعد خواطره الدهشة، ويعينه على الوحشة التي حركها نحوه البعادة فهي الوحشة، والله تعالى يشكر همم مولانا غائباً وحاضراً، وشافعاً لرسائل خدمه وناظراً، ويخص بابه العلوي بسلام كسلام سقيط الطل عن ورق الغصن ناضراً.
آخر من كلامه: كتب به إلى بعض رؤساء مصر.
وينهي أن سطرها معربةً عن شوقٍ مقيم، وعهدٍ لا يبرح على صراطه المستقيم، وارتياحٍ لجنابه، أو لكتابه، ليتلو لإنصات شجوه: أمْ حَسِبْتَ أنَّ أصْحابَ الكَهْفِ والرَّقِيم، متطلعاً لما يرد من أخبار مولانا السارة البارة، مرتقباً لأنبائه ارتقاب الزهيرة الفاغرة إلى ضرع الغمام الدارة، ولو أن كل ما يتمنى المرء يدركه، وكل ما يقترح على الدهر يملكه، لغني بقرب المخاطبة، عن بعد المكاتبة، واستجلى كوكب الجمال المشرق وأقصر في ليالي الانتظار عن المراقبة. وقد جهزها على يد فلان، وحمله من رسائل الشوق أوفى وأوفر من رسائل الصفا، وسأل الإصغاء والملاحظة من مولًى كجاره النيل معروف المنافع والوفا، ولآمال المملوك بمشرفاته وأوامره جمالٌ حين يريح وحين يسرح، وحين يقتصر على مقترحات الأيام حين يشرح، فينعم مولانا بمواصلتها على هذه المقدمة، ويجعل ذلك من إدرارات صلاته المنجمة، والله تعالى لا يعدم المملوك في حال كرمه، إما أن يفيض في القرب بحره وإما أن يبعث على البعد ديمه.
وله إلى كاتب السر: أعلى الله أمر قلمها على الأقلام، وأدام بفيض أنامله عليه بسط كلمة الإسلام، وراع بكتائب كتبه العدا إذا انتبهوا، فإذا أغفوا سلَّتْ عليهم سيُوفَها الأحلام ز ولا زالت تلك الأقلام العالية في تلك اليد الكريمة إن لم تكن من المنشئات، فإنها من المنشآت في البحر كالأعلام، تقبيل مواظب على دعاء يطلع طلوع طرة الصبح تحت ذلك الظلام، وولاءٍ إذا اعتبر الخاطر مسعاده وخدمته، {قال يا بُشرَى هذا غُلاَم}.
وينهي أنه جهز هذه الخدمة مقصورةً على وصف الأشواق الممدودة، وجوانح الشجو المعهودة، وأنفاس التذكر التي لولا شرف مذكورها لم تكن عنده من الأنفاس المعدودة، فيالها مقصورةً على شوقٍ ما فيها غير طيور الجوانح خفاقة الجناح، سباقة الارتياح، ويا لها أنفاس ذكر أغنت منادمتها عن كيس كأس واقتراح وقت راح، ويا لها ورقةً فازت بمشافهة لثم اليد الشريفة فكرمت وصفاً، ونأت عن فخار الروض عطفاً، واستطابت بشفاه السطور على تلك البنان رشفاً [طويل].
وسطّرتها والجسم أنحل ما يرى ** فياليتني أصبحت في طيّها

واصلةً إلى الباب الكريم بسلام وصل عبقه قبل ما وصلت، واردةً على يد فلان وقد حمل من رسائل الصفاء والود مثل ما حملت، وحصلت على القرب، ويا أسفي على ما حصل وحصلت. والمملوك يسأل الإصغاء إليها وإليه بفضل النظر والسمع، والإنعام على المحب المفارق بمشرفاتٍ تجلو عليه أيام جمع، وتعينه على أوقات وحشةٍ إذا وصفها امشتاقون وأقلامهم ولوا وأعينهم تفيض من الدمع، لا برح ذكر مولانا عليا، وبره بملء الآمال مليا، ووصفه بالتقى وسحاب الجود على الحالين وليا: [سريع]
يا منية النّفس ويا مالكي ** مذ غبت عنّي لم تنم مقلتي

إن بنت عن عيني برغمي فقد ** سكنت في قلبي وفي مهجتي

لا أوحش الله من طلعته، ولا أخلى من كريم مساعدته، وجمع شمل الأنس بخدمته.
المملوك يشكو من المولى فراقاً أوجب له على نفسه فرقاً وجيش صدود منحه من العزائم طوائف وفرقاً، وداء صبابةٍ كلما ترجى الإفراق منه ازداد تلهباً وحرقاً، ووجوب قلبٍ لغيبته ووجب، ودمع عينٍ يمحو مهما عبر عنه لسان قلمه أو كتب، وقد أطال الهجر تألمه وعتبه، وأطار سنته ولبه، مذ وصل المولى غيره وقطع عنه كتبه، والمولى يعلم أن المملوك لفظٌ والمولى معناه، وسعده شخص وأنت وجهه الميمون ويمناه، فيواتر إرسال مكاتباته، ويتحف بمأثوره ولباناته، ويعطر بذكره الجميل الأماكن ويشنف المسامع، كما شرف بحلوله فيها الأضالع، والله يديمه ويمده بالإسعاف والإسعاد، وينصره على الأضداد والحساد وافر.
أقاسي من بعادك ما أقاسي ** وقلبك راحمٌ وعليّ قاسي

وأحمل من نواك بضعف نفسٍ ** عناءً يعجز الشمّ الرّواسي

وتبعدني وأمرك إن أتاني ** جعلت محلّه عيني وراسي

قرب الله أوبته، وعجل رويته، وحرس نفسه من الغير والحادثات، وصان حجابه المنيع عن الملمات المؤلمات، وجمل الأيام بوجوده، والأنام بجوده، ولا زالت الدنيا به مجملة، وأعناق أبنائها لمننه متحملة.
صدرت هذه الخدمة إلى خدمته متضمنةً إهداء سلامه، وشاكيةً لغيبته جور أيامه، ومنهيةً شدة أشواقه التي أفنت بالصبابة التي أفنت بالصبابة قلبه، وأذهبت حشاشته ولبه، وهي في ذلك نائبةٌ مناب سائر الخدم، ومعبرةٌ عن ألسنة الأقاليم بلسان القلم، فإن الأعين متطلعة إلى رويته، والقلوب متعطشة إلى قفوله ورجعيته، كما تتطلع إلى السماء عيون النرجس، وتتعطش الرياض إلى الوابل الغدق بعد اليوم المحر المشمس، فالمولى يجعل مواصلته بأخباره فرضاً لازماً، ويمتنع من إغفاله كما يمتنع من لذة الطعام إذا كان صائماً، فإن المولى هو صورة الجود ومعناه، وبيته الكريم فناء الخير ومغناه، والناس ما لم يروك أشباه؛ حرسه الله وتولاه، وضاعف علاه، والسلام. رجز.
يا أجمل الناس سناءً وسنا ** جفت جفوني لجفاك الوسنا

ثمار آلامٍ إلام أجتني؟ ** يا ليتني أعلم حظّي ما جنا

وأنتم يا أهل بان لعلعٍ ** مذ بنتم لم أر شيئاً حسنا

أقمتم بمنحنى أضالعي ** وسرتم يا أهل وادي المنحنا

في بعدكم منيّتي لا تبعدوا ** وقربكم غاية والمنا

خلد الله سعادته، وبلغه من العلياء إرادته، وأثل مجده، وأدام سعده، وأعذب منهله وورده.
المملوك يتشوق إلى لقائه، ويتشوف إلى أنبائه، ويصف شديد أشواقه وصبابته، وحنينه إلى مشاهدى المولى ومشافهته، وما يجده لذلك من ألمٍ في جوارحه الجريحة، وسقمٍ في جوانحه الصحيحة، ويلتمس مواصلته بكتبه آناء الليل وأطراف النهار، وأخباره السارة ليتضاعف له مزيد الاستبشار، فإن القلب بنار الصبابة قد وقد، وأما صبره على بعده فقد فقد، ومتى ورد كتاب المولى شفي الغليل، وأبل العليل، ونجع طعم الحياة ونجح التأميل، فليصير وتر مكاتباته شفعاً، ولا يجعل لوصلهن قطعاً، والله يمنح عيشه خفضاً ومكانه رفعاً، والسلام.
شعر في معنى التشوق: [بسيط]
قد كان لي شرفٌ يصفو برؤيتكم ** فكدّرته يد الأيّام حين صفا

غيره [طويل].
كتبت للكتاب مجلّد ** على أنّه قبلي بلقياك يسعد

النوع السادس: في الاستزارة:
قال في مواد البيان: رقاع الاستزارة إنما تشتمل على وصف حالات الأنس ومجالس اللذات، ومشاهد المسرات. قال: ويجب على الكاتب أن يودعها حلو الألفاظ، ومؤنق المعاني وبارع التشبيهات، ويبالغ في تشويق المستزار إلى الحضور، ويتلطف فيه أحسن تلطف.
وهذه نسخ من ذلك: علي بن خلف: رقعتي- أطال الله بقاء سيدي- ومجلسي بمن حله من خدمه، ونزله من صنائع كرمه، فلكٌ مزينٌ بأنجمه، فإن رأى أن يطلع فيه بدراً بطلوعه وينقل قدمه إليهم، ويكمل نقصهم بتمامه، ويضيف ذلك إلى تليد إنعامه، فعل، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله: قد انتظم لنا- أطال الله بقاء سيدي- مجلسٌ رقت حواشيه، وتبسمت راحه عن حبب، كلأليء على ذهب، وقامت فيه سوق السرور، لا يكسدها إلا تخلفه عن الحضور، فإن رأى أن يكمل جذلنا بإطلاع طلعته علينا، ويصدق ظننا بنقل قدمه إلينا، وأبهج، وتمم من الإحسان ما أخدج، إن شاء الله تعالى.
وله: هذا- أطال الله بقاء مولانا- يومٌ صفيق الظل، رقيق غلالة الطل، قد ترفعت شمسه ببرج أنسه، وافتر جذلاً عن مضاحك برقه، وترنم طرباً بزمجرة رعده، ووشت مدارج نسيمه، بأرج شميمه، وقام على منابر السرور يخطب ابنة الكرم لابناء الكرام، وينادي بأعلى صوته: حي على المدام، فقد وجب على كل موفقٍ لاجتناء ثمار السرور، والتحاف عطاف الحبور، أن يلبي دعوته، وينتهز فرصته، ويعوضه من شمسه الآفلة، براحٍ لإظهار ما اختفى من شعاعها كافلة، ويقفه على التملي بالكاس والندمان، ويجعله سلكاً ينتظم فيه الإخوان. ورقعتي هذه صادرةٌ إلى مولاي وقد تهيأ لنا مجلسٌ من مجالس الأنس، يبسط تجعد النفس، فيه بغم ونغم، ومزهر وزهر، وخلان قد تراضعوا لبان العقار، وتساهموا نقل الوقار، وشجعوا في معارك الخمار، وأدمنوا على المماساة والابتكار، إلا أن هذا المجلس مع تمامه مخدج، وعلى كماله مختلج، لبعد مولاي الحال منه محل الواسطة من النظام، والأرواح من الأجسام، فإن رأى أن يكمل منه ما نقص، ويميط عنه ما نغص فليجملنا بالمصير إلينا، والطلوع علينا، وإعفائنا من إضجار الانتظار، معتداً بذلك في كريم الأيادي والمبار، إن شاء الله تعالى.
وله في مثله: هذا اليوم- أطال الله سيدي- يومٌ أعرس فيه الجو بالجارية البيضاء فخدرها، وحجبها بسجف الغمام وسترها، واختار اختيال المعرس في معرسه، بمصندله وممسكه ومورسه، واتخذ من ذهب البوارق نثاراً، واستنطق من زنار الرواعد أوتاراً، ودعا إلى حضور وليمته، والسرور بمسرته، فإن رأى أن يلبي طلب هذا اليوم الصفيق، ويتمتع بعيشه الرافع الرفيق، فليطلع علينا طلعته التي تبهر القمر المزهر، وتصدع الليل المعتكر، لينهض غرة الإصباح، بغرة الراح، ويقطف ثمار الأنس والمحاضرة، ويتملى بالسماع والمذاكرة، ويأخذ بحظٍ من لذاذة الفيخة الشبيهة بشمائله، ويعد ذلك من مباره وفواضله، فعل إن شاء الله تعالى.
وله في الاستزارة في بستان:
كتبت- أطال الله بقاء سيدي- وقد غدوت في هذا اليوم إلى بستاني والطير في الأوكار، والأنداء تهبط كالتيار، والليل مشتملٌ على الصباح اشتمال الأدهم على الأوضاح، عازماً على مشارفته ومشارفة ما استمددت من عمارته، لا للخلوة فيه بمعاطاة المدام، ومؤانسة الندام، فحين سرحت الطرف في ميادينه وجدأوله، وأقبلت على تصفح حلاه وحلله، رأيت مناظره تعتلق القلوب اعتلاف الأشراك؛ وتعتاق المستوفز عن الحراك، وتقيم قاعد المزاج والنشاط، وتوقظ هاجد الفرح والانبساط؛ فمن أشجارٍ كالأوانس، في ريحاني الملابس، حاليةٍ من موشع الزهر والثمر، بأنصع من الياقوت والجوهر، كأنما تحفلت لاجتلاء عروس، أو معاطاة كؤوس، ما بين نخيلٍ قد نشرت عذب السندس على ذراها، وأطلعت طلعاً كالخناجر غشيها صداها، ونارنج يحمل أكبر العقيان، أو وجنات القيان، وأترجٍ قد استعال ثمرة أشواق العشاق، إذا صالت عليهم يد الفراق. ومن ريضان زاهيةٍ بنشرها، وقضبها مختالةٌ في ملابس زهرها، ونرجسها كعين محبٍ حدق إلى الحبيب، وثنى جيده خوف الرقيب، إذا عبث به النسيم جمع بين كل قضيب وإلفه، وسعى بالاعتناق من شوقه وكلفه، ووردها كمداهن ياقوتٍ فيها نضار، وشقيقها كمدامات عقيقٍ فيها صوار، وبنفسجها فخذٌ تمضي فيه من القرص آثار، أو جام لجينٍ عليه من الندى نثار. ومن أنهار قدت حافاتها قد الأديم، وحدت على صراطٍ مستقيم، بجرة مسجورة، كالسيوف سلوخ الأساود، يتخرق ذلك كله نسيمٌ رقيق الغلائل، حلو الشمائل، يسعى بالنميم في المعاطس والشميم، انصبت إلى ملجسٍ فسيح البناء، ضيق الأقناء، موشى الجدران والسماء، في صدره شاذروان يرمي بكسر البلور، وفي وسطه نهر ينساب ماؤه انسياب الشجاع المذعور، وتتوسطه بركةٌ منمنمةٌ ينصب الماء إليها بالدوالي إلى أربع شاذروانات، ويخرج عنها من أربع فطيمات، يحتفها كل شجرٍ مثمر، وروضٍ مزهر، فقلت: هذا المراد الذي يحط به الرائد رحله، ويوفد إليه أهله، ويدعو إلى اختيار من يهب إلى السرور، ويساعد على الحضور، للمشاركة في التملي ببهجته، والتمتع بنضرته، فكان مولاي أول من جرى إليه ذكري، ووقع عليه طرف فكري؛ لأنه الساكن في فؤادي، الحال في محل رقادي، فإن رأى أراه الله ما يقر العين أن يكمل مسرتي بنقل قدمه إلي، وإطلاع سعد طلعته علي، ليتمم محاسن ما وصفته، ويكمل الالتذاذ بما شرحته، فعل، إن شاء الله تعالى.
أجوبة رقاع الاستزارة:
قال في مواد البيان: لا يخلو المستزار من الإجابة إلى الحضور أو التثاقل عنه فإن حضر على الفور، فلا جواب لما نفذ إليه، وإن وعد الحضور وتلوم ليقضي شغلاً ويحضر، فينبغي أن يبني الجواب على سروره بما دعي إليه، وحسن موقعه منه، وأن تلومه للعائق الذي قطعه عن أن يكون جواباً عما ورد عليه، وأن حضوره يشفع رقعته. وإن أيس من الحضور، وجب أن يبنى الجواب على ما يمهد عذره، ويقرر في نفس مستزيره أنه لم يتأخذ عن المساعدة على الأنس إلا لقواطع صدت عنه، يعلم المعتذر إليه صحتها لينحرس ما بينهما من المودة، فإن كثيراً ما تتفاسد الخلان من مثل هذه الأحوال.
النوع السابع في اختطاب المودة وافتتاح المكاتبة:
قال في مواد البيان: الرقاع الدائرة بين الإخوان في اختطاب المعاشرة، وانتماء المكاثرة، وطلب الخلطة والمؤانسة، يجب أن يقدر الخطاب فيها على أن يصل المرغوب في عشرته إلى الانخراط في سلك أحبائه، والانحياز إلى أهل ولائه، ويبعث على قصده في الالتحاق بوده، ويدل على المماحصة، والصفاء والمخالصة، وما جرى هذا المجرى مما يتعامل به أخلاء الصدق، ويجعلونه مهراً لما يلتمسونه من الممازجة، ويرومونه من الاختلاط والمواشجة.
قال: وينبغي أن يذهب الكاتب في هذه الرقاع مذهباً لطيفاً، ويحسن التوصل إلى الإفصاح عن أغراضها، ليأخذ بمجامع القلوب، ويعين على نيل المطلوب.
وهذه نسخ من ذلك:
رقعة: وينهي أن المملوك لم يزل مذ وقع طرفه على صورته، وولج سمعه بعد شيمته، يناجي نفسه بافتتاح مكاتبته ومراسلته، واختطاب ممازجته ومواصلته، رغبةً في الاعتقاد بإخائه، واالارتشاف من مشارع صفائه، والمقادير تطوي الطوية على ما فيها، والعوائق تمطل النية بنجاز ما تنويه وتلويها، إلى أن أذن الله تعالى بإعراض الأعراض، وانقباض أسباب الانقباض، فأظهر المملوك ما في القوة، واثقاً من مولانا بحسن المروة، وأنه يوجب القبول بإجابته، ويجيب إلى مساعدته، ويرضى المملوك أهلاً لاصطفائه، ومحلاً لإخائه، عالماً بإيجابه للحق، والمعرفة بالسبق، وأن تلقى هذه الرغبة بالقبول، ويسلم إليها مفتاح المأمول.
رقعة: لو كانت المودة لا تحصل إلا عن ألفة تالدة، ومواصلةٍ سالفة، لم يستطرف المرء صفياً، ولم يستحدث ولياً. وما زال البعداء يتقاربون، والمتناكرون يتعارفون. ولما نمي إلى المملوك من أنباء مولانا ما تضوع عطره، وطاب نشره، سارف بالأمل إليه، وقدم بالرغبة عليه، طالباً الانخراط في سلك أوليائه، والاختلاط بخاصته وخلصائه، ومثل مولانا من أجاب السول، وصدق المأمول، والمملوك يرجو أن تكشف الأيام لمولانا منه عن خلة صادقة، ومودةٍ صحيحة، لا تضيع معها إجابته، ولا تخسر صفقته.
رقعة: وينهي أن المملوك ما زال مذ وقع طرفه على صورته البدرية، وأحاط علماً بخلائقه المرضية، راغباً في مواشجته، باعثاً نفسه على اختطاب مودته، وإكباره يقعده، وإعظامه يبعده، فلما تطأول يراع همته، شجعت على إنفاذ عزمته، فقدم مكاتبته أمام مشافهته، فإن حظي بالإجابة وتنويل الطلبة، فقد فاز قدحه، وتبلج صبحه، ونال مناه، وبلغ رضاه، وصادف هناه، وديداً موثوقاً بوده، مسكوناً إلى عقده وعهده، يحمده عند الاختبار، ويعرف به صحة رأيه عند الاختيار، والمملوك يرجو أن يصح ما سأله وكفله، إن شاء الله تعالى.
رقعة: وينهي أن من عمر الله تعالى بثنائه المحافل، وعطر بأنبائه الفضائل، وأقام من مساعيه الكرام خطيباً يخطب بسؤدده وفضله، ويعرب عن شرف محتده وأصله، تطلعت الآمال للانتظام في سلك أحبائه، وتشوفت الهمم إلى الامتزاج بخلصائه وأوليائه، لما يضفو على المعتصم بعرى مصافاته من لباس جماله، ويحلي المعتزي إلى ولائه من خلى جلاله، وأحق من أسعفه مولانا بالمودة إذا خطبها، وأجابه إلى المصافاة إذا طلبها، من بدأه بالرغبة، ومت إليه بالمحبة، لا لمرغب ولا مرهب، واختاره لنفسه على علم بكماله، ومعرفةٍ بشرف خلاله.
وما زال المملوك مذ أطلعه الله على ما خص به مولانا من المحاسن المتعذرة إلا لديه والفصائل الممتنعة إلا عليه، يحوم على مسارع ممازجته ولا يردها، ويروم مواقع مواشجته ولا يعتمدها، إكباراً لقدره، وإعظاماً لخطره، وخوفاً من تصفحه ونقده، وإبقاءاً على ماء وجهه من رده. والمملوك وإن كان عالماً بأن كرم مولانا يرقع الخلل، وفضله يصدق الأمل، فإنه لا يعدم مذ رغب في قرب مولانا ما لعله يجده فيه، مما يخالف مذهبه وينافيه، إذ كان لا يبلغ تضاهيه في التمام وتوافيه، إلى أن أذن الله تعالى بأن أبلغ نفسه الأمنية، وأظهر ما طويت عليه الطوية، فكتب هذه الرقعة مجعلها فيما رامه من الاعتلاق بحبل مودته سفيراً، وعلى ما التمسه من الانضمام إلى جملته ظهيراً، وقدم بها عليه ظنه يترجح عن الإعراض إلى القبول، ثقةً بقرب نيل المأمول، فإن رأى أن يجيبه إلى ما سأله، ويسره بتنويل ما اقترحه، فعل، إن شاء الله تعالى.
اختطاب المودة ومفاتحة المكاتبة من كلام المتأخرين:
الشيخ جمال الدين بن نباتة: وضاعف للممالك ببقائه الانتفاع، وبارتقائه الارتفاع، وسر بمحاسن نظره وخبره العيان والسماع.
ولا زال للمحبين من وده عطف المتلطف وللأعداء من بأسه خطف الشجاع، أصدرها المملوك منطويةً على ما عهد من صدق المحبة، ووفاء العهود المستتبة، ودرر المحامد التي لا تسوى لديها درر العقود حبة، مبديةً لعلمه الكريم أن المودات إذا صفت، والقلوب إذا تجندت وتعارفت، حثت المحبين في البعاد على المفاتحة بكتبهم ورسائلهم، والمخاطبة في ظلال الأوراق بألسنة أقلامهم من لهوات أناملهم، إيثاراً لتجديد الأنس وإن صح الميثاق، وتذكاراً لخواطر الود، وإن رسخت منه الأصول ونمت الأعراق، ولذلك فاتح بها مخاطباً، وارتقب لمناديها بالأخبار السارة مجاوباً، نائبةً عنه في مشاهدة الوجه الكريم، ومصافحة اليد في حديث برها القديم، تستطلع أخباره، وتستعرض أوطاره، وتحيي بالسلام وجهه وعهده ودياره، على يد فلان، وقد حمل من المودات والمشافهات ما يعيده على السمع الكريم المنعم بإصغائه، المصغي بنعمائه، المتحف بالمهمات التي يحصل فوز القيام بها، والمشرفات التي كل أسباب السرور متصلٌ بسببها، والله تعالى يبهج من تلقائه سمعاً ونظراً، ويبقي عيش حاسده هشيماً وعيش محبيه نضراً، ويديم رياض ذكره تاليةً على المسامع: فأخرجْنا مِنْه خَضِراً.
أجوبة اختطاب المودة:
قال في مواد الليان: لا يخلو من يرام ذلك منه من أن يجيب أو يعتل، فإن أجاب بنى الجواب على وقوع رغبة المختطب أحسن مواقعها، وابتهاج المختطب بها، ومعرفته بقدر ما رآه أهلاً له ومسارعته إليه، وإن اعتل بنى الجواب على أنه قد عرض له ما يقصر عنه، ولا ترضى نفسه به، وأن العذر ليس بعادةٍ له في المزايلة، وطريقةٍ في الانفراد والمجانبة.
النوع الثامن في خطبة النساء:
قال في مواد البيان: الرقاع في التماس الصهر والمواصلة يجب أن تكون مبنيةً على وصف المخطوب إليه بما يقتضي الرغبة، ويدل الخاطب عن نفسه بما يؤدي إلى الكفاية والإسعاف بالطلبة.
قال: وينبغي للكاتب أن يودعها من ألفاظ المعاني المنتظمة في هذا الباب أوقعها في النفوس، وأعودها بتقريب المرام، وأدلها على صدق القول فيما تكفله من حسن معاشرةٍ، ولين معاملة، وأن يذهب بها إلى الاختصار والإيجاز.
وهذه نسخٌ من ذلك:
مما أورده أبو الحسين بن سعد في ترسله: وأفضل تلك المواهب موقعاً وألطفها وأحمدها عاقبةً، وأرهنها يداً، ما يؤلف الله به القربات، ويؤكد به الحرمات، ويوجب به الصلات، ويجدد به المكرمات، ويحدث به الأنساب، ويقوي به الأسباب، ويكثر به من القلة، ويجمع به من الفرقة، ويؤنس به من الوحشة، ويزاد به في الحقوق وجوباً، وفي المودات ثبوتاً، ثم لا مثل لما كان الله طاعةً ورضاء، وبأمره أخذاً واقتداء، وبكتابه قدوة واحتذاء، فالله نسأل الخيرة في قضائه، والبركة فيما يقوم بناؤك عليه.
ومنه: تصل رحماً، وتعقد سبباً، وتحدث نسباً، وتجدد وصلة، وتؤكد ألفة.
رقعة: من خصه الله تعالى بما خص به سيدي، من طهارة الأعراق والأنساب، وشرف الأخلاق والآداب، وأفرده باجتماع خلال الخير المتفرقة في الأنام، وعطر بثنائه ملابس الأيام، رغب الأحرار في مواصلته، وهان عليهم بذل الوجه في اختطاب ممازجته، والتماس مواشجته ومناسبته، وجديرٌ من رغب إليه، وطلب ما لديه، واختير للمشابكة في الولد واللحمه، والمشاركة في المال والنعمة- أن يجيب ولا يمنع، ويصل ولا يقطع، مصدقاً لأمل من أفرده بارتياده، وتوحده باعتماده، عارفاً حق ابتدائه بالثقة التي لا يجوز رد من اعتقدها، ولا صد من حسن ظنها، وقد علم الله تعالى أن مضى للمملوك مدة طويلة وهو يبحث متطلباً مربعاً للتأهل، مؤثراً لعمارة المنزل، راغباً في سكنٍ تطمئن النفس إليه، وتعتمد في الفواتح والمصاير عليه، وكلما عرض للمملوك بيتٌ أباه، أو ذكر له جنابٌ قطع عنه رجاه، لعدم بعض الشروط التي يريدها فيه، وتعذرها عليه، فلما قرع سمعه ذكر سيدي علم أنه الغاية التي لا مرقى بعدها، والنهاية التي لا مطمح وراءها، وأنه قد ظفر بالثقة، ووصل إلى الأمنية، ووجد من يجمع الخلال المرضية ويزيد، ويحوز من الفضل الشأو البعيد، وكتب المملوك هذه الرقعة خاطباً كريمته فلانة ليكون لها كالغمد الضامن للمهند، والجلد الحافظ للمجلد، ويكون لمولانا كالولد البر بأبيه، ولأخيها كالصنو الشفيق على أخيه، فإن رأى سيدي أن يتدبر ما كتبه المملوك ويتسمع من توكيد رقعته، ويجيبه إلى ما سأله فله علو الرأي في ذلك إن شاء الله تعالى.
رقعة: وينهي أن مولانا بما تمم الله من محاسنه ومناقبه، جديرٌ أن يلقى من خطب الاعتصام بعرى ممازجته، وسعى في نيل علقه من مواشجته، بالقبول، القاضي بنيل المأمول، ودرك الرغب والسول، ولا سيما إذا كان عارفاً من سمو خطره، واعتلاء قدره، ما يقضي عليه بخفض الجناح في معاشرته، وغض الطرف في معاملته، والوقوف دون درجة المساواة والمماثلة، والتزحزح عن رتبة المباراة والمطأولة، والانتظام في سلك الأتباع والحاشية، والخدام والغاشية، وكثيراً ما وجد المملوك البركة في مشاركة من هذه صفته أوفر منها في مشاركة النظراء، وكانت العاقبة في مشابكة من هذه حاله أجمل منها في مشابكة الأكفاء، الذين يصادفون في الحقوق شططاً، ولا يغضون عن يسير الواجبات تبسطاً؛ لأنهم يرون أن الوصلة ممن داناهم في الرتبة والمنزلة ليست عائدةً عليهم بشرف، ولا مظهرةً لهم من خمول؛ ولأن يستخلص مثل سيدي من الرؤساء، مثل المملوك من الأولياء، ويختصه بأثره الاجتباء والاصطفاء، فيكون مفخره إليه منسوباً، وما يرقيه الله تعالى إليه ببركته من درج الفضل في نفسه محسوباً، أولى من طلب مماثل يناوئ بقدره ويطأول. على أنه لو طلب ذلك لطلب معوزاً، ورام معجزاً؛ لما أفرده الله تعالى به من السيادة التي لا يترامى إلى منزلتها، ولا يتسامى إلى مطأولتها، وإذاً كان النظير معدوماً، والكفؤ مفقوداً، ولو وجد لمال متسلطاً، ووقع سومه منبسطاً، ومولانا يطلب إليه ولا يطلب، ويرغب فيما عنده ولا يرغب، فقد سهلت السبيل إلى ما يرومه المملوك من جهته، ويؤثره من مواصلته، واتسع المجال فيما يقدم عليه من الرغبة في تقليده شرف مصاهرته، وإضافته بذلك إلى بطانته وأهل خاصته، ويخرجه على ما يخرج عليه الوالد ولده، والسيد عبده، وقد حمل المملوك موصل مطالعته هذه ما لم تسع إيداعه المكاتبة، فإن رأى مولانا أن يصغي إيه ويجيب عبده بما يعتمده المملوك في ذلك فله الفضل، إن شاء الله تعالى.
رقعة: وينهي أن لذوي المناجب الطيبة الأنساب، والمناحت الزكية الأحساب، والأخلاق الكريمة والآداب، بين الأنام لسان صدق يخطب لهم بالمحاسن والمحامد، ويعطر بثنائهم الصادر والوارد، ويدعو القلوب إلى نيل علقه من ممازجتهم، والتمسك بطرف من مواصلتهم، وقد جمع الله لمولانا من كريم المتلد والمطرف، وقديم وحديث الفضل والشرف، ما تفرق في السيادات، وتوزع على أهل الرياسات، وجعله في طهارة المولد، وطيبة المحتد، واستكمال المآثر، واستتمام المفاخر، علماً ظاهراً، ونجماً زاهراً، فما من رئيس سوى مولانا تعجزه خلة من خلال الرياسة إلا وجدها لديه، ولا نفيسٍ تعوزه خصلةٌ من خصال النفاسة إلا استماحها من يديه، ولذلك امتدت الأعناق إلى التمسك بحبله، وتطلعت الهمم إلى مواجشته في كريم أصله، وصار مرغوباً إليه لا راغباً، ومطلوباً لديه لا طالباً، وهو جديرٌ بما وهبه الله من هذا الفضل الذائع، والنبل الشائع، أن يجيب سائله، ويصدق آمله، ولا يتجهم في وجه قاصده، ولا يرده عن مقصده، ولا سيما إذا كان قد أسلفه الظن الجميل، وبدأه بالثقة والتأميل، وتعذل عليه قدر العارف بقدره، العالم بخطره، المرتضي بشرائطه، النازل على حكمه، المتدبر برأيه، وقد علم الله تعالى أن المملوك مذ نشأ وصلح للتأهل مرغوبٌ فيه، مخطوبٌ إليه، من عدة جهاتٍ جليلة، وجنباتٍ رئيسة، والمملوك صادٌ عن الإجابة، صارفٌ عن المطاوعة؛ لشذوذ بعض الشروط التي يروم أن تكون مجتمعةً في النسب، الذي أعده شريكاً في الولد والنشب، ومفاوضاً في الحال والسبب، مرتادٌ من يقنع بالموافقة، ويرتضي بالعشرة والمرافقة، حتى أفضى في الانتقاد إلى مولانا فوجد المراد على اشتراط، وألفى المقصود على اشتطاط، فدعاه ذلك إلى التهجم بعد الإحجام، وحمله على التجاسر والإقدام، والتوسل إلى مولانا بما يتوسل به الأحرار، إلى الأخيار، وأمه بصادق الرغبة وصميم المحبة والانبساط، في خطبة كريمته فلانة، على أن يعاشرها بغاية الأنس، ويصحبها صحبة الجسد للنفس، ويعرف لها من قدر أبوتها وأمومتها ما تستحق برياستها، وقد أصدر هذه الرقعة نائبةً عنه في ذلك، فإن رأى مولانا أن يتحفه بالقبول، ويجعله أهلاً لإجابة السول، فله الفضل في ذلك، إن شاء الله تعالى.
ومن النادر الغريب ما ذكره الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي في حسن التوسل في الكتابة إلى شخص في تزوج أمه، وهو: هذه المكاتبة إلى فلانٍ- جعله الله ممن يؤثر دينه على الهوى، وينوي بأفعاله الوقوف مع أحكام الله تعالى فإنها لكل امرئٍ ما نوى، ويعلم أن الخير والخيرة فيما يسره الله من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن الشر والمكروه فيما طوى، نعرض له بأمرٍ لا حرج عليه في الإجابة إليه، ولا خلل يلحقه به في المروءة وهل أخل بالمروءة من فعل ما حض الشرع المطهر عليه؟ وأظهر الناس مروءةً من أبلغ النفس في مصالح حرمه عذرها، ووفى من حقوق أخصهن ببره كل ما علم أن فيه برها، وإذا كانت المرأة عورة، فإن كمال صونها فيما جعل الله فيه سترها، وصلاح حالها فيما أصلح الله به في الحياة أمرها، وإذا كانت النساء شقائق الرجال في باطن أمر البشرية وظاهره، وكان الأولى تعجيل أسباب العصمة فلا فرق بين أول وقت الاحتياج إلى ذلك وآخره، وما جدع الحلال أنف الغيرة إلا ليزول شمم الحمية، وتنزل على حكم الله فيما شرع لعباده النفوس الأبية، ويعلم أن الفضل في الانقياد لأمر الله لا في اتباع الهوى بعضل الولية، وإذا كان بر الوالدة أتم، وحقها أعم، والنظر في صلاح حالها أهم، تعينت الإجابة إلى ما يصلح به حالها، ويسكن إليه بالها، ويتوفر به مالها، ويعمر به فناؤها، ويحصل به عن تقلد المنن استغناؤها، وتحمل به كلفة خدمها عنها، وتدفع به ضروراتٌ لا بد لذوات الحجاب والحجال منها، ويصفو به ستر الإحصان والحصانة عليها، ويظهر به سر ما أوجبه الله لها من تتبع مواقع الإحسان إليها.
وقد تقدم من سادات السلف من تولى ذلك لوالدته بنفسه، واعتده من أسباب بر يومه الذي قابل به ما أسلفته إليه في أمسه، علماً منهم أن استكمال البر مما يعلي قدر المرء ويغلي، وقد أجاب زيد بن زين العابدين هشاماً لما سأله: لم زوجت أمك بعد أبيك؟ فقال: لتبشر بآخر مثلي، لا سيما والراغب إلى المولى في ذلك ممن يرغب في قربه، ويغبط على ما لديه من نعم ربه، ويعظم لاجتماع دنياه ودينه، ويكرم ليمن نقيبته وجود يمينه، ويعلم أن العقيلة تحل منه في أمنع حرم، وتستظل من ذراه بأضفى ستور الكرم، مع ارتفاع حسبه، واشتهار نسبه، وعلو قدره في منصبه وحاله وسببه، وأنه ممن يحسن أن يحل من المولى محل والده، وأن يتجمل من ذريته بمن يكون في الملمات بناناً ليده وعضداً لساعده، فإن المرء كثيرٌ بأخيه، وإذا أطلق عليه بحكم المجاز لفظ العمومة، فإن عم الرجل صنو أبيه، وأنا أتوقع من المولى الجواب بما يجمع شمل التقى، ويعلم به أنه تخير من البر أفضل ما ينتقى، ويتحقق بفعله أن مثله لا يهمل واجباً، ولأمرٍ ما قال الأحنف وقد وصف بالأناة: لكني أتعجل أن لا أرد كفؤاً خاطباً.
النوع التاسع في الاسترضاء والاستعطاف والاعتذار:
قال في مواد البيان: المكاتبة في استعطاف الرؤساء، وملاطفة الكبراء، تحتاج إلى حسن تأتٍ؛ لما تشتمل عليه من إيجاب حقوق الخدمة، وما أسلفوه من مرعي الخدم، وما يتبع هذا من التنصل والاعتذار الذي يسل السخائم من القلوب، ويستنزل الأوغار من الصدور، ويطلع الأنس وقد غرب، ولها موقع في تأليف الكلام.
قال: وينبغي للكاتب أن يستعمل فيها فكره، ويوفيها حقها، من جودة الترتيب، واستيفاء المعاني، وأن يذهب إلى استعمال الألفاظ الجامعة لمعاني العذر، الملوحة بالبراءة مما قرف به، ولا يخرج لفظه مخرج من يقيم الحجة على براءة الساحة مما رمي به، فإن ذلك مما يكرهه الرؤساء؛ لأن عادتهم جاريةٌ بإيثار اعتراف الخدام لهم بالتقصير والتفريط والإخلال بالفروض، ليكون لهم في العفو عند الإقرار عارفةٌ توجب شكراً مستأنفاً، فأما إذا أقام التابع الحجة على براءته وسلامته مما رفع عنه، فلا يوضع الإحسان إلا إليه في إقراره على منزلته، والرضا عنه والاستعطاف، بل ذلك واجبٌ له، في منعه منه ظلم.
وهذه نسخٌ من ذلك:
لابي الحسين بن سعد: فإن رأيت أن تنظر في أمري نظراً يشبه أخلاقك المرضية ويكون لحسن ظني بك مصدقاً، ولعظيم أملي فيك محققاً، ولما لم تزل تعدنيه منجزاً، ولحق حرمتي بك وقديم اتصالي بأسبابك قاضياً، فعلت، إن شاء الله تعالى.
ومنه: لسليمان بن وهب: من انصرف في الاحتجاج إلى الإقرار بما يلزمه وإن لم يكن لازماً، فقد لطف الاستعطاف، واستوجب المسامحة والإنصاف.
ومنه: وقد نالني من جفوة الأمير بعد الذي كنت أتعرف من بره وألطافه أمرٌ أحلني محل المذنب في نفسي مع البراءة من الذنب، وألزمني الإساءة مع الخروج من التقصير، وزاده عندي عظماً وشدة أني حأولت الخروج منه بالاعتذار، فلم أجد لي إلى الأمير ذنباً أعتذر منه، ولا علي فيما ألزمني من معتبته حجةٌ أحأول دفعها والتخلص منها، فأصبحت أعالج من ذلك داءً قد خفي دواؤه، وأحأول صلاح أمرٍ لم أجن فساده، فإن رأيت أن تفعل كذا وكذا فتصل قديم ما أصبح عندي من معروفك بحديثه، فليس عندي في مطالبةٍ حجةٌ أنجح من التوجه إلى الأمير بنفسه، والثقة عنده بفضله، فإن كنت مذنباً عفا، وإن كنت بريئاً راجع.
ومنه: لأبي علي البصير: وأنا أحد من أسكنته ظلك، وأعلقته حبلك، وحبوته بلطيف برك، وخاص عنايتك، وانتصف بك من الزمان، واستغنى بإخائك عن الإخوان، فهو لا يرغب إلا إليك، ولا يعتمد إلا عليك، ولا يستنجح طلبه إلا بك، وقد كان فرط مني قولٌ: إن تأولته لي، أراك أوجه عذري، وقام عندك بحجتي، فأغناني عن توكيد الأيمان على حسن نيتي، وإن تأولته علي، أحاق بي لائمتك وحبسني على أسوإ حال عندك، وقد أتيتك معترفاً بالزلة، مستكيناً للموجدة، عائذاً بالصفح والإقالة، فإن رأيت أن تقرب عيناً قرت بنعمتك عندي، ولا تسلبني منها ما ألبستني، وأن تقتصر من عقوبتي على المكروه الذي نالني بسبب عتبك علي، وتأمر بتعريفي رأيك بما يطمأن هلعي، وتسكن إليه نفسي، ويأمن به روعي، فعلت، إن شاء الله تعالى.
ومنه: لأبي الحسين بن أبي البغل:
نبو الطرف من الوزير دليلٌ على تغير الحال عنده، والجفاء ممن عود الله البر منه شديدٌ، وقد استدللت بإزالة الوزير إياي النحل الذي كان نحلنيه بتطوله، على ما سؤت له ظناً بنفسي، وما أخاف عتباً؛ لأني لم أجن ذنباً، فإن رأى الوزير أن يقومني لنفسي، ويدلني على ما يريده مني، فعل، إن شاء الله تعالى.
ومنه: لأبي الربيع: أصدق المقال، ما حققه الفعال، وأفضل الخبر، ما صدقه الأثر.
ومنه: لمولانا سيرةٌ في الفضل والإحسان ما أملها آمل إلا جادت وسخت ومنحت، وعوائد في العفو ما رجاها راجٍ إلا صفحت وسمحت، وأحق من تلقاه عند العثار، بالإقالة والاغتفار، ووقف به عند حد التقويم والإصلاح، ولم يعرضه لنقيصة الإقصاة والاطراح، من شفع الهفوة بالاعتذار، وخطب التغمد بلسان الإقرار، ودلت التجارب منه على حسم الأضرار، وكان له من سالف الخدم وسائل وذرائع، ومن صحيح الإخلاص ممهد وشافع، فلا عجب أن المملوك يهفو فيعفو، ويظلم فيكظم، ويجهل فيحلم، ويخطئ فيصيب، ويدعو متنصلاً فجيب، وقد جعل الله سهمه المعلى، ويده الطولى، وألهمه التفضل بالإنعام، والتغميض عن زلات الكرام، وقد حصل للمملوك في هذه النبوة من إزرائه على عقله، وتقبيحه لفعله، أعظم تجربة، وأكبر مأدبة، والمملوك يسأل إحسان سيدي أن يعيده إلى رضاه ولطفه، ويؤنس منه مستوحش إقباله وعطفه، ويصدق رجاءه فيه، ويجزل ثواب وفادته عليه، إن شاء الله تعالى.
رقعة: المملوك يخطب صفح سيده وإقالته بلسان الاغتفار، ويستعيد ما عرف من رضاه وعاطفته بوسائل الاعتذار، ليكون المتفضل في كل الحالات، والمنعم من كل الجهات، وقد عرف السهو والنسيان، المعترضين للإنسان، وأنهما يحولان بينه وبين قلبه، ويزوران عليه خطأه في صورة صوابه، فيتورط في السقط غير عامد، ويتهور في الغلط غير قاصد، وقد قال الله تعالى: لاَ يُوأَخذُكُمُ اللَّهُ باللَّغْوِ في أيْمَانِكُمْ ولكِنْ يُوأَخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُم الأيْمان. وما أولى مولانا بأن يحفظ على المملوك جميل آرائه، ولا يسلبه ما شمله من ظل آلائه، ولا يسمه بميسم العقوق فإنه يجد نفسه بخلاف ذلك في طاعته، ومرتبتها بغير هذه الرتبة في خدمته.
فصل: وقد آوى سيدي المملوك من ظله، وأعلقه من حبله، وأسبغ عليه من فضله، ما أنصفه به من الزمان، وأغناه عن الإخوان، ووقف رغباته عليه، وصرف آماله إليه، ونزله منزلة من لا يشك في اعتقاده، ولا يستريب بوداده، وكان المملوك أرسل لفظاً على سبيل الإشفاق ذهب به الحاسد إلى غير معناه، وخالف في تفسيره حقيقة مغزاه، وأحاله عن بنيته، وعرضه عليه على غير صورته، ليوحش محل المملوك المأنوس من رعايته، وينفر سربه المطمئن بملاحظته وعنايته، وقد أرسل المملوك هذه العبودية سائلاً في محو إظلام موجدته، وأن يعيد المملوك إلى مكانه من حضرته، إن شاء الله تعالى.
لا أتوسل إليك إلا بك، ولا آتيك إلا من بابك، ولا أستشفع إليك بسواك، ولا أكل رجعة هواك إلا إلى هواك، ولا أنتظر إلا عطفتك التي لا تقودها زخارف الأموال، ولا تعيدها شفاعات الرجال [طويل].
إذا أنت لم تعطفك إلاّ شفاعةٌ ** فلا خير في ودٍّ يكون بشافع

شعر في معنى ذلك: [سريع]
هبني تخطّيت إلى زلّةٍ ** ولم أكن أذنبت فيما مضى

أليس لي من قبلها خدمةٌ ** توجب لي منك سبيل الرّضى

غيره [وافر]
وحقّك ما هجرتك من ملالٍ ** ولا أعرضت إلاّ خوف مقت

لأن طبائع الإنسان ليست ** على وفق الإرادة كلّ وقت

اعتذار من التأخر، من ترسل أبي الحسين بن سعد: إن لم يكن في تأخري عنك عذرٌ تقبله، فاجعله ذنباً تغفره.
علي بن خلف: الأعذار- أطال الله بقاء سيدي- تنأى على الامتناع، وتضيق على الاتساع، وذلك بحسب ما تصادفه من قبول ورد، ومسامحةٍ ونقد، وأنا أحمد الله على أن جعل عذري إلى من يتمحل العذر للمعتذر، ويصفح صفح المالك المقتدر، كأنما ائتم بقول الشاعر طويل:
إذا ما أتت من صاحبٍ لك زلّةٌ ** فكن أنت محتالاً لزلّته عذرا

ولم يجعله إلى من يغلب هاجس الظنون، على واضح الحجة، ومعتل الشك على صحيح اليقين. ونمي إلي أن غابطاً لمكاني من حضرته، حسدني على محلي من مودته، وزور ما ينكشف عن الإفك والبهتان، ودلس الكذب في صورة البرهان، فلما جلاه في معارض زخارفه أظهر لسيدي عواره، وأبدى لطرفه شواره، فشل سمعه عن وعيه، وطرف طرفه عن رعيه، واستنم علائم شيمته، في حسن الضن بأحبته، فقدمت من الاعتذار ما يقدمه المذنب نزولاً على طاعته، وتأدباً في خدمته، وشفعته من الشكر بما يقتضيه إحسانه ويوجبه.
أبو الفرج الببغاء: أحق المعاذير بالتقبل وأولاها بسعة القلوب ما صدر عن استكانة الأقدار، ودل على حسم مواد الأضرار، وصفا من كدر الاحتجاجات، وتنزه عن تمحل الشبهات، ليخلص به ملك العفو، وتتكامل نعمة التجاوز. ولست أكره شرف تأديبه، ونبل تثقيفه وتهذيبه، ما لم يتجاوز في العقوبة والتقويم إلى مؤلم الإعراض، ومضيض التنكر والانقباض، ولا أخطب الإقالة من تفضله إلا بلسان الثقة وشافع الخدمة، هارباً إلى سعة كرمه مما دفعتني المحبة إليه، وأشفى بي عدم التوفيق عليه، فإن رأى أن يكون عند أحسن ظني به في الصفح، كما هو عند أصدق أملي فيه بالإنعام، فعل.
وله في مثله: ليس يخلو الإغراق في التنصل والمبالغة في الاعتذار من إقامةٍ لحجة، أو تمسك باعتراض شبهة، وأنا أجل ما أخطبه من عظيم عفوه، وأكبر ما أحأوله من نعمة تجاوزه، عن المقابلة بعين الاعتراف بالزلل وبعد الاستحقاق من الصفح، ما لم يوجب لي بسعة تأوله، ويعد علي فيه بعادات تفضله، لتصفو منه الأعضاء، وتلزمني واجبات الشكر والثناء، غير ممتنعٍ مع ذلك من التبري إليه مما أنكره من تجاوز السهو إلى العمل، والتوجه إلى ما فرط بالاختيار والقصد اللذين يغفر بتجنبهما مذموم الأفعال، ويتغمد سيئ الأعمال، فإن رأى أن يحمل أمري فيما قصدتني الأيام بتوجه الظنون فيه على غير النية لا ظاهر الفعل، إذ كانت صفات الإنسان بالأشهر من أخلاقه والأكثر من أفعاله، ولا صفة لي أعرف بها وأنسب إليها غير الاعتراف بإنعامه، والتطأول من اصطناعه، آخذاً من كل حال بالفضل، ومشفعاً بسطة الرياسة والنبل.
وله في مثله: لست أخلو في المدة التي تجاوز الدهر لي عنها في خدمته من توصلٍ بفرط الاجتهاد، إلى ما وصل من رأيه إلى رتبة التقبل والإحماد، وليس يحبط ما أتيته من مرضي الخدمة بالنية والعمد بما لعله فرط من غير مراد، إذ كان- أيده الله بفائض طوله، ومأثور فضله- آخذاً من آداب الله بما أحاكمه منه: إِنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئات. ولو لا إيثاري مفترض الطاعة واستكانة الاعتداد، وأن لا أخطب رضاه بلسان الاحتجاج، ولا ألتمس عفوه بوجوب الاستحقاق، لتسلم له صفات التفضل، ولي موات الاعتراف بسالف التطول، لبرهنت على سلامتي مما قصر علي بتوجه الظنون واعتراض الأوهام، ولا أقول بشعث النية وفساد الرأي، فإن رأى أن يحفظ ما ابتدأه مختاراً من اصطناعي بما يصونه عن التنكر، ويصون عادتي في شكر ذلك والاعتداد به عن الفتور والتغير، فعل.
أجوبة الاسترضاء والاستعطاف:
قال في مواد البيان: لا يخلو المعتذر إليه من أمرين؛ أحدهما أن يقبل العذر، والآخر أن يستمر على الموجدة ويرفض ما يأتي به من حجة، فإن كان قد قبل العذر، وجب أن يبنى الجواب على وصول الكتاب، والوقوف عليه، والتقبل لما تضمنه، وتبرئة المعتذر عن الحاجة إلى الاعتذار، والانقياد إلى الاعتراف بالجرم والإقرار، إكراماً لخلته عن التهمة، وللمودة عن الظنة، فإن الأمر الذي أوجب العذر لو صدر منه، لاقتضى وداده التأول له بأنه ما صدر إلا عن باطنٍ سليم ومصلحةٍ أوجبته. قال: وليس هذا المعنى هو الذي يجاب به من قبل عذره فقط؛ لأنه يجوز أن يجيب بأنه قد قبل العذر، وصفح عن الجرم، على أن لا يعود إلى مثله. وإن استمر على القصد، بني الجواب على إبطال العذر ومعارضته بما يقتضيه، والدلالة على خطإ المعتذر، وأنه مما لا يسوغ الصفح عنه، ولا يليق بالحزم إقالته.
قال: وهذان معنيان يحملان من العبارة ما لا يكاد ينحصر في قول مشروح مبسوط، فضلاً عن قولٍ مجملٍ موجز، إلا أن المتدرب بالصناعة إذا مرت به هذه الأصول أمكنه التفريع عليها.
النوع العاشر في الشكوى أعاذنا الله تعالى منها:
قال في مواد البيان: رقاع الشكوى- عصمنا الله من موجباتها- يجب أن تكون مبنيةً من صفة الحال المشكية، على ما يوجب المشاركة فيها ويقضي بالمساعدة إن استدعيت عليها، من غير إغراقٍ يفضي إلى تظليم الأقدار وإحباط الأجر، وشكوى المبتلي بالخير والشر سبحانه وتعالى، ويدل على التهالك بالجزع، وضعف التماسك وقوة الهلع، باستيلاء القنوط والإياس، وأن يشفع الشكوى بذكر الثقة بالله سبحانه، والتسليم إليه، والرضا بأحكامه، وتوقع الفرج من عنده، وتلقي اختباره بالصبر، كما تتلقى نعمه بالشكر، ونحو هذا مما يليق به ويجري مجراه. قال: وقد يكتب الأتباع للرؤساء رقاعاً بشكاية الأحوال ومساءلة النظر، ثم ذكر أن سبيل هذه الرقاع أن يعدل بها عن التصريح بالشكوى إلى لفظ الشكر ومعناه، وطلب الزيادة والإلحاق بالنظراء في الإحسان، لما في إطلاق الشكاية، والتصريح بها من التعريض بإخلال الرئيس بما يلزمه النظر فيه من أحوال خاصتهم وتعهد مرافقهم من الكفاية.
وهذه نسخٌ من ذلك: رقعة شكوى هموم: كتب المملوك هذا الكتاب وهو رهين فكرٍ وغم، وقلقٍ وهم، وحليف جوًى قد سكن القلب، وخوفٍ قد أطار اللب، وبالله العياذ، وهو الملاذ، وبيده تحل العقدة، وبأمره تزول الشدة وقد ألهم الله سبحانه المملوك صبراً يسر أمره، وأملاً في الفرج خفف ضره، وليس بآئسٍ من عطفته، ولا قانطٍ من نعمته.
رقعة في معنى ذلك: كتب المملوك وهو شاكٍ لتجاهل الأيام، وقيذٌ من مواقع سهامها الرغيبة الكلام، منهومٌ بهموم تضعف الجليد، وتسوء الوديد، وتسر الحسود، لاقٍ من قسوة الدهر وفظاظته، ونبوة العيش ونفرته، ما يرد الجفون عن الهجوع، ويغرق العيون بالدموع، ولله تعالى في عباده أقضيةٌ يقضيها، وأقدارٌ يمضيها، والله أسأل حسن العاقبة والختام، وتمحيص الأوزار والآثام.
رقعة: كتب المملوك وجسمه صحيح، وقلبه قريح، وجنانه سليم، وجنابه سقيم، لما يتبادر إليه من نكاياتٍ تقدح وتقرح، وحادثاتٍ تكلم وتجرح، ونوبٍ نهض، وتهدم وترض، وخطوبٍ تخاطب شفاهاً، وتوصل من اليد إلى اليد أذاها، إلا أن الله يهب ريح المنح، وقد تداكت المحن فينشفها، ويشق عمود الفرح، وقد آدلهمت فيكشفها، وظن المملوك بالله تعالى جميل، وله في صنعه ولطفه تأميل.
رقعة: وينهي أنه قد كتب هذه العبودية بيدٍ قد أرعشتها الآلام، يملي عليها قلبٌ قد قلبته الأسقام، فجسمه ناحل، وجسده بعد النضرة قاحل، وقواه قد وهنت، وجلادته قد وهت، وصبره قد تخلى واضطرب، وتحمله قد نأى واقترب، وعاد شبحاً من الأشباح، وهباءً تذروه الرياح، فلو اعتلق بشعرة لم تنصرم، أو ولج خرت إبراة خياط لم تنفصم، ولولا الثقة بالله وأنه يتبع السقم بالصحة، ويشفع المحنة بالمنحة، لذهب ما بقي من ذمائه، وأطل على شفا شقائه، والمملوك يستشرف منه تعالى لطفاً يعيد الكليل حديداً، والمخلق جديداً.
رقعة: وينهي أنه قد كتب هذه الرقعة، وقد ساء الأيام عليه، وقبح صنعها لديه، وابتلته بمؤلم البلوى، وأنطقته بلسان الشكوى، فهو محترقٌ بنار الغيظ، يدعو على نفسه بالفيظ، إن لم يكن فرجٌ يفرج بين الأضداد، ولطفٌ يريح من هذا الجهاد، وكلما طلب المزايلة عوق، أو طلب الفكاك اعتلق، فهو قاطنٌ في صورة الظاعن، وحالٌ في حال الراحل، والله يمن بالمخرج، ويأتي بالفرج.
رقعة: وقد سطر المملوك هذه العبودية، وقد انجلت هذه النبوة، عن البلاء والشقوة، ونفاد المال، واستحالة الحال، واستيلاء العدو، واستعلاء السو، وكذا الدهر خدوع غرور، خؤون غدور، إن وهب ارتجع، وإن ألبس انتزع، وإن أعطى أعطى قليلاً وقلع، وإن أحلى أمر، وإن نفع ضر، وإن أبرم نقض، وإن رفع خفض، وإن أقبل أعرض، وإن وعد أمرض، فنعمه مقرونةٌ بالزوال، ومنحه معرضةٌ للانتقال، وصفوه مشوبٌ بالكدر، وعيشه ممزوجٌ بالعير، ما أجن إلا أوجد خللاً، ولا أمن إلا أتبع الأمن جللاً، والمملوك يحمد الله تعالى على أن أوسعه في حال البلاء شكراً، وفي حال الابتلاء صبراً.
أجوبة رقاع الشكوى:
قال في مواد البيان: يجب أن تبنى أجوبة هذه الرقاع على الارتماض في الحال المشكية، والتوجع منها، وبذل الوسع في المعونة عليها، والمشاركة فيها، وما يجري هذا المجرى مما يليق به.
النوع الحادي عشر في استماحة الحوائج:
قال في مواد البيان: ورقاع الاستماحة يختار أن تكون مودعةً من الألفاظ ما يحرك قوى السماح، ويبعث دواعي الارتياح، ويوجب حرمة الفضل المسهلة بذل المال الصعب بذله، إلا على من وفر الله مروءته، وأرخص عليه أثمان المحامد وإن غلت.
قال: وينبغي للكاتب أن يتلطف فيها التلطف الذي يعود بنجاح المرام، ويؤمن من الحصول على إراقة ماء الوجه، والخيبة بالرد عن البغية، ويعدل عن التثقيل والإلحاق المضجرين ولا يضيق العذر على السماح إلا أن يتمكن للثقة به، ويعلم المشاركة في الحال.
وهذه نسخٌ من ذلك: من كتاب أبي الحسين بن سعد.
أفضل القول أصدقه، وأهنى المعروف أعجله، وأبلغ الشكر أظهره.
ومنه: إن حضرتك نيةٌ في قضاء حاجةٍ فعجلها، فإن أهنى المعروف ما عجل، وأنكده ما تنازعته العلل، واعترضته كثرة الاقتضاء.
ومنه: أنت، أعزك الله، واجد السبيل إلى اصطناع المعروف واكتساب الثواب، وأنت أعرف بما في استنقاذ أسيرٍ من أسرى المسلمين، من وارد الأسر، وعرصة الكفر، وانتياشه من الذلة والفاقة، والبلاء والمشقة، من جزيل ثواب الله وكريم جزائه وأجل من أن تخاطب في ذلك مخاطبة من يحتاج إلى زيادةٍ في بصيرته، وتقويةٍ لنيتة، وبالله توفيقك وعونك.
علي بن خلف: قد تمسك أملي بضمانك، وتطلع رجائي إلى إحسانك، وكفل لي النجاح مشهور كرمك، ورغبتك في رب نعمك، ولي من فضلك نسيب أعتزي إليه، ومن شكري شفيعٌ أعتمد عليه.
وله: المواعيد- أطال الله بقاء مولاي- غروس، حلو ثمارها الإنجاز والتعجيل، ومره المطل والتطويل، وقد شام أملي من سحائب فضله، حقيقاً بأن ينهمر ويهمي، وارتاد من روض نبله، جديراً بأن يزيد وينمي، فإن كانت هذه المخيلة صادقة، فلتكن منه همةٌ للرجاء محققة، إن شاء الله تعالى.
وله: هممت أن أستصحب إلى مولاي ذريعةً تحجب مطلي، وتكون حجاباً على وجهي في المطالعة بأربي، فلاح لي من أساريره برقٌ أوضح مقصدي، ومن أخلاقه انبساطٌ أمال تجعدي، ولست مع معرفته بحق نعمة الله تعالى وحق مؤمله، محتاجاً عنده إلى ذريعة ولا مفتقراً إلى وسيلة.
وله: ولا يحملني مولاي على ظاهر تجملي، وجميل توكلي، على حالٍ قد أحالتها العطل، وتخللتها الخلة، وإنما أبقي بالتجمل على ديباجة همتي، وأصون بالتخفيف عن الصديق مروتي، ولولا أن الشكوى تخفف متحمل البلوى، لأضربت عن مساءلته، وأمسكت عن تذكيره، ولكن لا بد للوصيب الشاكي، من ذكر حاله للطبيب الشافي، وقد كان برق لي من سحاب وعده ما هو جديرٌ بالانهمار، وأورق من نمائه، ما هو حقيقٌ بالإثمار، فإن رأى أن يسم وجه التأميل، بعد الإنجاز والتعجيل، فعل.
وله: ما حامت آمالي- أطال الله بقاءه- إلا وقعت بحضرته، ولا صعبت علي جوانب الرجاء إلا سهلت من جهته، ولا كذبتني الظنون إلا صدقها بعلو همته، فلذلك أعتلق في المهم بحبله، وأعتصم في الملم بظله، وقد عرض لي كذا وعليه فيه المعول، وهو المرجو والمؤمل، وما أولاه بالجري على عادته في ريش جناحي، والمعونة على صلاحي.
في طلب كسوة، من كلام المتأخرين: [طويل]
ألا أيّها المولى الّذي نهر جوده ** يزيد وعاصي أمره الدّهر ينقص

إليك اشتكائي من دمشق وبردها ** وما أنا فيه من أمورٍ تنغّص

وإنّي في عرسٍ من البرد دائم ** تصفّق أسناني وقلبي يرقص

المملوك ينهي بعد الابتهال إلى الله تعالى في إدامة نعمته، وإدالة دولته، أنه ما ألف من إحسانه إلا أنه يضاعف رسم الإنعام، ويواتر إرساله على ممر الأيام والأعوام، وللمملوك في خزانته الشريفة في كل عامٍ تشريفٌ يفيضه على جسده، ويسر به قلوب أوليائه ويفت أكباد حسده، ويتقي به سورة الشتال وقره، ويجعله قرة ويحمل به من الدعة وقره، وقد درس رسمه، وفقد من الديوان المعمور اسمه، وهو يسأل بروز الأمر العالي بإجرائه على عادته المستمرة، وقاعدته السالفة المستقرة، بتشريفه بأخذ التشريف ولبسه، ليدفع بذلك شدة البرد وأليم مسه، ويتذكر بها في يومه ما يوجب حمد المولى وذم أمسه، ورأيه العالي.
وله في طلب ورق [سريع]
يا أسمح الناس ويا من غدا ** جبينه يخجل ضوء الشّفق

جودك بالورق عميمٌ فلم ** أخّرت يا مولاي بعث الورق؟

وله في طلب رسم مجزوء الرجز:
رسمي مولاي غدا ** مؤخّراً ولو حضر

ولو أراد سيّدي ** إحضاره كان أمر

فقد مضى محرّمٌ ** وراحتي منه صفر

وكتب كاتبٌ إلى مخدومه، وقد تأخر صرف معلومه [متقارب]
وتعلم أنّي كثير العيال ** قليل الجراية والواجب

فلست على ظمإٍ قانعاً ** بوردٍ من الوشل الناضب

ولا شكّ في أنّني هاربٌ ** فقدّر لنفسك في كاتب

قلت: وكتبت نظماً لأمير المؤمنين المستعين بالله أبي الفضل العباس، خليفة العصر، أستميحه حاجةً في مجلس كان فيه هو وولده يحيى وأخواه داود ويعقوب ما صورته: [طويل]
إذا رمت أن تحظى بنيل مآربٍ ** فبادر إلى العبّاس من آل عبّاس

إمامٌ به ثغر الخلافة باسمٌ ** وعرنيتها يسمو على قمّة الراس

أبى الفضل إلاّ أن يكون لأهله ** دواماً وأن يدعى أبا الفضل في الناس

فللمستعين أقصد تجد خير منجدٍ ** حريصٍ على المعروف برًّا بإيناس

فيحيا له يحيى وداود صنوه ** ويعقوب أعضاداً وحصناُ من الباس

وكتبت لقاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام عمر البلقيني أستميحه حاجة أيضاً: [طويل]
أيا شيخ إسلامٍ وقاضي قضاته ** ومن قد سما في الناس علماً ومنصبا

لقد عمّ نوءٌ منك كلّ مؤمّلٍ ** وحاشى لبرقٍ شمت يظهر خلّبا

أأحرم معروفاً له كنت أرتجي ** ويحجب ذو بعدٍ من القوم أقربا

وما زلت أرجو في زمانك رفعةً ** ولكن جواد الحظّ بالبعد قد كبا

ولن يستعيض الخفض بالرّفع ماجدٌ ** خصوصاً ومن أخّرت ما نال مطلبا

ولست ترى منّي إليك وسيلةً ** سواك وحسبي باعتلاك تقرّبا

وكتبت لقاضي القضاة جمال الدين محمود القيسراني، وهو يومئذٍ قاضي قضاة الحنفية وناظر الجيوش المنصورة، أذكر بطالةً عرضت لي من وظيفة مباشرةٍ كانت بيدي: [طويل]
إلى اللّه أشكو من زماني بواره ** فأمسيت في الحرمان بي يضرب المثل

تماديت بطّالاً وأعوزت حيلةً ** ولم يبرح البطّال تعرف له الحيل

فلا ملتجى جاهٍ ولا عزّ صاحبٍ ** ولا مالكٌ يحنو فيا قوم ما العمل؟

ولكنّ محمود العواقب أرتجي ** ومن يحمد العقبى على القصد قد حصل

وكتبت للقاضي شمس الدين العمري كاتب الدست الشريف في حاجةٍ نجرها بسيط:
إن لا أرى عمراً حتّى ألمّ به ** ألفيت من نسله من كان لي عمرا

لم يغف عن حاجتي حتّى أنبّهه ** وكيف يغفو وفي المعروف كم سهرا؟

جعلته مبتداً في رفعه خبري ** وعادة المبتدا أن يرفع الخبرا

أجوبة استماحة الحوائج:
قال في مواد البيان: لا يخلو المستماح والمكلف حاجةً من أن يسعف أو يمنع، فإن أسعف فقد غني عن الجواب، وربما أجاب المسعف بجواب مبنيٍ على حسن موقع انبساط المستميح، والاعتذار عن التقصير في حقة وإن كان قد بلغ به فوق ما يجب له- تكرماً وتفضلاً، وإن منع فربما أجاب بعذر في الوقت الحاضر أو عذر في المستأنف، وربما أخل بالجواب تغافلاً.
وهذه نسخة جواب بالإسعاف بالمقصود، كتب بها في جوابٍ لكاتب السر عن نائب الشام، في طلب إقطاع، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة إجابةً للمطلوب، وهي: لا زال قلمها يمد على الإسلام ظلاً ظليلاً، ويستجد صنعاً جميلاً، ويأخذ بأمر الله أعداء دينه أخذاً وبيلاً، ويقوم باجتهاده في مصالح الملك النهار كله والليل إلا قليلاً، تقبيل مواظب على ولاءٍ لا يجد له تبديلاً، وثناءٍ لو سمعه المحب فشافه الأحباب إذاً لاتخذوه خليلاً.
وينهي ورود مشرفه مولانا القديم فضلها، الكريم وصلها وأصلها، فوقف المملوك عليها، وأصغى بجملته إليها، وعلم مار سم به مولانا، وأشار إليه تبياناً، وكذلك بلغه مملوكه الولد فلان المشافهة الكريمة فحبذا من صاحب السر إسراراً وإعلاناً، وشكر لهما مشرفةً ومشافهةً أوردا الإحسان مثنى مثنى، وسرّا سمعه المملوك لفظاً واستهداه معنى، فما منهما في الإحسان إلا زائدة، ولا في الصلات إلا عائدة، لا جرم أن المملوك أقبل على قبيلهما بسمعه وناظره، وقلبه وخاطره، وجملته وسائره، وامتثل الإشارة العالية التي من حقها أن تقدم على كل مهمٍ يرد عليه، وأمرٍ يتوجه إليه، ويد الزمان مشكورةٌ يأخذها منه بكلتا يديه، وعين المملوك لوقته الإقطاع المطلوب، وتقدم بكتابة مربعته حسب ما رسم من تجري السعادة من سطره تحت مكتوب، وجهزها قرين هذه الخدمة ومن ذا يقارن سبق ذلك البر المديد، وكيف توازي المربعة كتاباً هو بالإحسان للعنق تقليد؟ لا برحت مراسم مولانا معدودةً من رسوم نعمه، ومشرفاته محسوبةً من تشريفاته التي يخلعها على أبناء محبيه وخدمه.
النوع الثاني عشر في الشكر:
قال في مواد البيان: رقاع الشكر يجب أن تكون مودعةً من الاعتراف بأقدار المواهب، وكفاية الاستقلال بحقوق النعم، والاضطلاع بحمل الأيادي، والنهوض بأعباء الصنائع، ما يشحذ الهمم في الزيادة منها، ويوثق المصطنع بإفاضة الصنع، ويعرب عن كريم سجية المحسن إليه.
قال: وينبغي للكاتب أن يفتن فيها، ويقرب معانيها، وينتحل لها من ألفاظ الشكر أنوطها بالقلوب، لتستيقن نفس المتفضل أنه قد اجتنى ثمرة تفضله، وحصل من الشكر على أضعاف ما بذله من ماله أو جاهه، إلا أنه ينبغي أنها إذا كانت صادرةً من الأتباع إلى رؤسائهم، ومن يرجع إلى اختصاصٍ وأثرة، أن لا تبنى على الإغراق في الشكر؛ لأن الإغراق في الشكر يحمل هذه الطبقة على التملق الذي لا يليق إلا بالأباعد الذين يقصدون الدلالة على استقلالهم بحقوق ما أسدي إليهم، فأما من ضفا عليه من النعم ما يدفع الشك في اعترافه بالذل لديه، فإنه يغنى عن المبالغة في الشكر والاعتداد. ثم قال: وإنما يجب أن يذهب فيما يكتب عن هؤلاء من هذا الفن مذهب الاختصار، والإتيان بالألفاظ الوجيزة الجامعة لمعاني الشكر، دون مذهب الغلو والإفراط، وذو الطبع السليم، والفكر المستقيم، يكتفي بيسير التمثيل.
وهذه نسخٌ من ذلك: أبو الفرج الببغاء، في شكر تابع لمتبوعٍ: أنا في شكره- أيده الله- مبرهنٌ عن مواقع إحسانه إلي، وتظاهر إنعامه علي، لا مقدرٌ أني مع المبالغة والإسهاب، والإطالة والإطناب، أجازي عفو تفضله، ولا أجامل أيسر تطوله، وقد وسمني أيده الله من شرف اصطناعه، بما بوأني به أرفع منازل خدمه وأتباعه، وإلى الله أرغب في توفيقي من مقابلة ذلك بالاجتهاد في خدمته، والمبالغة في طاعته- لما أكون به للمزيد مستوجباً، وللحظوة مستحقاً.
وله في شكر قريب: فرض الشكر- أعزك الله- لا يسقط بقرب الأنساب، ولذلك لا أستجيز إغفال الواجب علي منه، ولا أجد عدولاً في التسامح فيه والإضراب عنه، وإن كنت غنياً عن الإفاضة فيما أعتقده من ذلك وأضمره، وأبديه وأظهره، بالمتعالم من خلوص النية وصحة الاعتقاد، فلا أخلاك الله من جميلٍ تسديه، وتفضل توليه، يمتري لك المزيد من سوابغ النعم وفوائد الشكر.
وله: قد استنفد مادة شكري، ووسع اعتدادي ونشري، تتابع تفضلك، وتوالي تطولك، ولست أقدر على النهوض بشكر منةٍ حتى تطرقني منك منة، ولا أحأول مجازاة نعمةٍ حتى تفد علي منك نعمة، فبأي عوارفك أعترف؟ أم بأي أياديك بالثناء أنتصف؟ فقد فزعت إلى الإقرار بالعجز عما يلزم فمن فروضك، وواجبات حقوقك، وانصرفت إلى سؤال الله جل اسمه بإيزاعي شكر ما وهب منك، والتجاوز للمكارم والفضل عنك.
وله: وقد شكرت برك الجليل موقعه، اللطيف موضعه، الخفيف محمله، العذب منهله، وشافهتك من ذلك بما استعت له القدرة لا ما تقتضيه حقوق المنة.
وله: أنا في الشكر بين نعمةٍ تنطقني، وعجز عما يجب لك يخرسني، ولست أفزع إلى غير تجاوز، ولا أعتمد على غير مسامحتك، ولا أتطأول إلا بمكاني منك، ولا أفاخر إلا بموقعي من إيثارك، فالحمد لله الذي جعلني بولائك مشهوراً، وفي شكرك مقصوراً.
علي بن خلف:
رقعة: وينهي أن الله تعالى لما ألهم مولانا البر، ألهم المملوك الشكر، فهو لا يزال يوسع في البر ويزيد، والمملوك لا يزال يبدي في الشكر ويعيد، ولكن شتان بين فاعلٍ وقائل، ومعطٍ وقابل، وواهبٍ وسائل، ورافد وحامد، وشاكر وشاكد، والمملوك يحمد الله تعالى إذ جعل يده الطولى، وحظه الأعلى.
رقعة: وصل بر مولانا وقد أحالت الخلة من المملوك حاله، وأمالت آماله، فلأمت ما صدعه الدهر من مروته، وجددت ما أخلقه من فروته، فكف المملوك يديه عن امتحان الخلان، وقبض لسانه عن شكاية الزمان، وأقر ماء وجهه في قرارته، وحفظ على جاهه لباس وجاهته، فيا له من برٍ وقع من الفقر، موقع القطر من القفر، ولم يتقدمه من قدامة الوعد، ما يتقدم القطر من جهامة الرعد، وكل معروفٍ وإن فاضت ينابيعه، وطالت فروعه، قاصرٌ عن الأمل في كرمه، واقعٌ دون غايات هممه، كما أن الشكر ولو واكب النجم، وساكب السجم، قاصرٌ عن مكافاة تفضله، ومجازاة تطوله، والمملوك يسأل الله تعالى الذي جعله قدوة الكرام، وحسنة الأيام، ورب الإنعام، وواحد الأنام، أن يلهم المملوك من حمده، بقدر ما أسبغه عليه من رفده.
رقعة شكر: عند المملوك لسيدي أيادٍ وصلت سابقة هواديها، وظلت لاحقةً تواليها، فصارت صدورها نسباً أعتزي إليه، وأعجازها سبباً أعول في الملمات عليه.
رقعة: لولا أن الله تعالى جعل الشكر ثمرة البر، والحمد جزاء الرفد، وأراد إقرارهما على أهلهما من الغابرين، وأن يجعل لهم منا لسان صدق في الآخرين، لكان الذي غمر به مولانا من الإنعام، يتحدث عنه تحدث الرياح بآثار الغمام، ويكفى المملوك بالإشارة، مؤونة العبارة، والمملوك وإن رام تأدية ما يلزمه من شكره، قاصرٌ عن غاية بره، ولو استخدم ألسنة الأقلام، واستغرق أمدي النثار والنظام، ومولانا جديرٌ بقبول اليسير، الذي لا تمكن الزيادة عليه، والصفح عن التقصير، الذي تقود الضرورة إليه، إن شاء الله تعالى.
رقعة: لو أن هذه العارفة بكر عوارفه، وباكورة لطائفه، لعجزت عن شكرها، وقصرت عن نشرها، فكيف وقد سبقها قرائن ونظائر، وتقدمها أترابٌ وضرائر مما أثقل من المملوك كاهله، وبسط به يدي أمله؟ فما يعدم شيئاً فيرجيه، ولا يفقده فيرغب فيه، والذي تربه من المملوك جوارحه، وتحويه جوانحه، علمه بأنه لا يجاري أياديه، ولا يجازي مساعيه، والله تعالى يخصه من الفضائل، بمثل ما تبرع به من الفواضل.
رقعة: ومثل مولانا من ذوي الشرف والسؤدد من حسن محضره، وطاب محبره، وكرم غيبه ومشهده، وصح على تغاير الأحوال عقده ووده، وقد أتصل بالمملوك ما أعاره له مولانا من أوصافه، وجرى فيه على عادة فضله وإنصافه، فطفق لفضله شاكراً، ولطوله ناشراً، وأضاف ذلك إلى توالد إحسانه، ونظمه في عقد امتنانه.
رقعة: قد طوق مولانا مملوكه من فضله طوقاً كأطواق الحمائم لا ينزع، وألبسه برداً من بره لا يخلع، وأولاه من مزيده ما قصرت الهمة عن تمنيه، ولم تهتد القريحة إليه فتستدعيه، ولو وجد المملوك جزاءً على عارفته، وكفاءً لمثوبته، غير الموالاة الصريحة، وعقد الضمائر على المودة الصحيحة، واللهج بالشكر في السر والجهر، لرمى من وراء عنياته، ولا استبعد طول شقته، ولكن المملوك عادٌ لما يقابل به يده الغراء، عاجزٌ عما يقضي به حق موهبته الزهراء، ما لم يحسن كرمه أمره، ويقبل منه على التقصير شكره، ويضف ذلك إلى لطائفه، وينظمه في سلك عوارفه، إن شاء الله تعالى.
رقعة: واجتهاد المملوك في نشر أياديه وشكرها، كاجتهاد مولانا في كتمانها وسترها، فكلما أبديتها بالثناء أخفاها، أو نشرتها بالإشادة طواها، وهيهات أن يخفى عرفٌ كعرف المسك نشراً، ومنٌ كالروضة نوراً والغزالة نوراً، ولو كان المملوك والعياذ بالله ستر هذا العرف بكفر، واغتمصه مانعاً لشكر، لنم عليه حسنه نموم الصباح، وتوقد توقد المصباح، فكيف وللمملوك مقولٌ لا يسامى يعجم سواد الليالي بالإحماد، ويرقم صفحات النهار بالاعتداد؟
الأجوبة عن رقاع الشكر:
قال في مواد البيان: إن كانت هذه الرقاع من المرؤوسين إلى الرؤساء فلا جواب لها، وإن كانت من النظير فالواجب أن يستعمل في أجوبتها مندوب التناصف والتفاوض.
جواب عن فعل المعروف والشكر عليه من كلام المتأخرين:
من ذلك، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، وهو بعد الصدر:
خلد الله على الممالك نعمه، وعلى المماليك ديمه، وحرم ببقائه ذم الزمان وأوجب ذممه، ولا برح نحو المحامد ينادي يوم الكرم مفرده ويوم الهياج علمه، تقبيلاً يسحب في الفخار بروده المعلمة، ويتذكر بالقرب فلا يزال الشوق ينتجه حيث كلا التذكار والعهد مقدمه.
وينهي ورود المثال العالي بما ملأ القلب خياً واليد براً، والسمع بشارةً والوجه بشراً، حتى تنافست الأعضاء على تقبيله، والجوارح على تأميله، فاليد تسابق إلى مننه بالامتداد، والقلب يسابق إلى كرم عهده بالاعتداد، والوجه يقلب ناظره في سماء مواقع القلم، والسمع ينعم بما تقص عليه المسار من أخبار جيرة العلم، حتى كاد المملوك يمحو بالتقبيل أسطره، ويشتغل بذلك عن استجلاء ما ذكره المنعم لا عدم المملوك في مصر والشام تكرره، وفهم ما أشار مولانا إليه من الفضل الذي مولانا أهله، وكرم العهد الذي لا ينكر من مثله وأين مثله؟ وقابل المملوك جميع ذلك بجهده من الأدعية الصالحة، وبسماحة الحمد المتفاوحة، والاعتداد بنعمة مولانا التي لولا موالاتها كل وقتٍ لقيل فيها ما أشبه الليلة بالبارحة وتضاعف نهوض المملوك على قدم الموالاة التي يستشهد في دعواها بشهادة الخاطر الشريف، ويتقدم بها تقدماً تحت لواء الولاء وتأتي بقية الأولياء في اللفيف، والله تعالى يوزع المملوك شكر هذه النعم المتصل مددها، والمنن التي لا يعدمها ولا يعدها، ويطيل بقاء مولانا لحمدٍ يجتليه ويجتنيه، وشرف دنيا وأخرى يهدم وفره وعمره ويبتنيه.
النوع الثالث عشر: العتاب:
قال في مواد البيان: المكاتبة بالمعاتبة على التحول عن المودة والاستخفاف بحقوق الخلة من المكاتبات التي يجب أن تستوفى شروطها، وتكمل أقسامها؛ لأن ترخيص الصديق لصديقه في المقاطعة والمصارمة دالٌ على ضعف الاعتقاد، واستحالة الوداد.
من كلام المتقدمين.
إنني ما أحدثت نبوة، إلا بعد أن أحدثت جفوة، ولا أبديت هجراً، إلا بعد أن أبديت غدراً، ولا لويت وجهاً عن الصلة، إلا بعد أن ثنيت عطفاً إلى القطيعة، والأول منا جانٍ، والثاني حانٍ؛ والمتقدم مؤثر، والمتأخر مضطر، وكم بين فعل المختار والمكره، والمبتدع والمتبع؟ آخر: إن أمسكت يا سيدي عن عتابك، مرخياً من عنانك، كنت بين قطع لحبلك، ورضاً بفعلك، أو اقتصرت فيه على التلويح به لم يغن ذاك مع كثرة جموحك، وما ارتكبته من رائك، واستخرجته من جفائك.
رقعة عتاب: لمولانا لدى المملوك عوارف لا يهتدي إلى معرفتها فيوفيها كنه المراد، وأيادٍ لا يبلغ ما تستحقه من الإحماد، ولو عضدته خطباء إياد، أجلها في نفسه خطراً، وأحسنها عليه أثراً، ما يفرضه له من بره وإكرامه، وتعهده واهتمامه، وقد غير مولانا عادته، ونقض شيمته، وبدل المملوك من الانعطاف بالإعراض، ومن الانبساط بالانقباض، وحمله من ذلك ما أوهى قوى صبره، وأظلم بصائر فكره، فإن يكن ذلك لخطإٍ واقعه المملوك ساهياً، وجرم اجترمه لاهياً، فمثل مولانا لا يطالب إلا بالقصد، ولا يعاقب إلا على العمد، إذ كان المملوك لا يعصم من زلل، ولا يسلم من خلل، اللهم إلا أن يكون مولانا أراد من المملوك تقويمه وتأديبه، وإصلاحه وتهذيبه، ليحسين أثره في خدمته، ويسلك السبيل الواضح في تباعته، فلا أعدم الله المملوك تثقيفه، ولا سلبه تبصيره وتعريفه، وإن كان ذلك لشكٍ عرض من المملوك في وداده، وارتيابٍ خامر في حسن اعتقاده، فأعيذه بالله من القطع بالشبهات، والعمل بمنغل السعايات، ومولانا خليقٌ بأن يطلع من أنس المملوك ما غرب، وينبط من سروره ما نضب، ويعيده لرضاه، ويجريه على ما أحمده منه وأرضاه.
رقعة: ليس المملوك يرفع مولانا في إعراضه، إلا إلى فضله، ولا يحاكمه على انقباضه، إلا إلى عدله، ولا يستعين عليه إلا بما يستمليه من آدابه، ولا يناظره إلا بما أخذه عنه من محافظته وإيجابه، إذ كان المملوك مذ وصلته السعادة بحباله، ناسجاً على منواله، متقبلاً شرائف خلاله. وما عهدته عمر الله معاهده، وكبت حاسده، يغضب تقليداً قبل الاختبار، ويحوج البريء إلى موقف الاعتذار، ولا سيما إذا كان المظنون به عالماً بشروط الكرم؛ عارفاً بمواقع النعم، لا ينسخ الشكر بالكفر، ولا يتعوض عن الحمد بالجحد، وقد عرف مولانا ثناء المملوك على تفضاله، ووقف على بلائه لأعماله، وهو فيٌ برب عوارفه وصنائعه، وتثمير ما رهن لديه من ودائعه، وتنزيه سمعه عن الإصغاء إلى ما يختلقه حاسد، ويصوغه كائد، وقد حكم المملوك على نفسه نقده الذي لا يبهرج عليه ولا يدلس، وكشفه الذي لا يغطى عليه ولا يلبس، فليحك أفعال المملوك على محك بصيرته، وليجل في تأمل مقاصده طرف فكرته، فإنه ممن لا تحيله الأحوال ولا تحوله، ولا تغيره الغير ولا تبدله، إن شاء الله تعالى.
رقعة: أفعال شكر المملوك في الحلم والغضب، والرضا والسخط، إذا لم يقتض الحزم إيقاعها موقع الفضل، واقعةٌ موقع الإنصاف والعدل، ولا يغلب هواه على رأيه، ولا بادرته على أناته، وقد جانب مع المملوك عادته، وباين فيه شيمته، وناله من إعراضه، وجفائه وانقباضه، وتغير رأيه، ما وسم المملوك فيه بالذنب ولم يذنبه، وحمله على الجرم ولم يحتقبه، وأوقفه لديه موقف الاعتذار، وأحوجه إلى الاستقالة والاستغفار، وليس المملوك يحاكمه إلا إليه، ولا يعول في الانتصاف إلا عليه، وما أولاه بأن يعيد المملوك إلى محله من رضاه، فإنه لم يواقع في خدمته إلا ما يرضاه، وحسبه شاهداً بذلك ما يعلم من المملوك من سلامة غيبه، وطهارة جيبه، وفضل وده، وصحة معتقده، إن شاء الله تعالى.
رقعة بمعاتبةٍ على.
كل مانعٍ ما لديه من رغبه، دافعٍ عما عنده من طلبه، فمستغنًى عنه إلا الله تعالى المبتدئ بالنعم، العواد بالكرم، ولو عرف مولانا بطعم شجرة المعروف، لأسرع إلى احتذائها، ولو علم ما لله تعالى عليه من الحقوق في ماله وجاهه، لم يقصر عن أدائها، غير أن ظن الفوز بالوجد، غاية المجد، وأنه إذا أحمد النسب غنيٌ عن الحمد، وأن النعمة ترتبط بالربط عليها، وتنصرف بالتصرف فيها، وما ساء المملوك أن تنزه عن تقلد منة لئيم، وحرم محمدةً من كريم، وهذا الحرمان أحسن والله في عين المملوك من النوال، وهذا الإكداء أبر لديه من بلوغ الآمال، وسينشر المملوك مذهبه في كل ناد، ويكف عنه أماني القصاد، ويكفيه مؤونة الاعتذار، ويصونه عن أن تبذل إليه وجوه الأحرار، ليعلم أن المملوك على منعه لم يقصر في بلوغ أوطاره، والسعي في إيثاره، إن شاء الله تعالى.
رقعة في المعنى: ما رد المملوك بر مولانا مستنزراً لقليله، ولا لائماً لنفسه على تأميله، لكنه انتجعه انتجاع من ظنه عارفاً بقدره، راغباً في شكره، فلو أغضى المملوك منه إلى الاطراح لأمره، لاستدل منه على قصر الهمة، وظن أنه قومه بدون القيمة، ولا سيما وهو يفرض لمن لا يجاري المملوك في مضمار، ولا يساويه في مقدار، من غير قصدٍ بتأميلٍ ورجاء، وتقديم ذريعةٍ من تقريظ وثناء، ما تضيق عنه الهمم الفساح، ولا يصل إليه الاقتراح.
رقعة عتاب، على تقصير في خطاب:
حوشي مولاي أن يجر الذيل على آثار فضله، ويميت من غروس إحسانه ما هو جديرٌ أن يتعهده بوبله، ويعفي مني رسوم كرمه، ويصدع بمجانبة الإنصاف صفاة صفاته وصفائه، وينطق الألسن بعتابه، ويصلت سيف التأنيب من قرابه، بما استحسنه من مستقبح المصارمة في المخاطبة، واستوطاه من جامح الترييث في المكاتبة، ولا سيما وهو يعلم أن موقع الإكرام من الكرام، ألطف من موقع الإنعام، وأن محل القال، أفضل من محل النوال، وأن تغير العادة في البر، مقوض لمعاهد الشكر، وسيح؟ السنة في الإنصاف، قاضٍ بالانصراف بعد الانعطاف، وقد كان المملوك أزمع أن يتحمل تقصيره به، وأن يفل من غربه، غير مطاوعٍ للحمية، ولا منقادٍ لنفس العصبية، ولا يقرع سمعه بعتاب، ولا يورد عليه ممض خطاب. ثم رأى المملوك أن يرشده إلى الأزين، ويبعثه على اعتماد الأحسن، ويحضه على مراجعة الأفضل، ومعاودة الأجمل، ليتحفظ مع سواه، ولا يجري مجراه، فليس كل أحدٍ يتحمله، ويرضى رضى المملوك بما يفعله، فمولانا حبب الله إليه الرشد، ووفقه إلى المنهج الأسد، هل هو من شيءٍ سوى بشر؟ فما هذا التيه والبطر؟ ولم هذا الأزل والأشر؟ وما فعل الرئيس إلى ما يصغر عنه قدر، ولا ييأس من نيله عمر، ولا مضت أقلامك في الأقاليم، ولا أشير إليك ببنان التعظيم، ولا فوضت إليك الوزارة والردافة، ولا تأمرت على الكافة، ولا طأولت الأكفاء فطلت، ولا ناضلت القرناء فنضلت، وإنما سرق إليك الحظ من ثماده وشلاً مصرداً، وأدر لك الدهر من أخلافه مجدداً، فافتتحت المعاملة بظلم الإخوان، ونسخ شرائع الإحسان، كذبتك نفسك، وغرك حدسك، كيف بك غداً إذا استرد الزمن ما خولك، واسترجع ما نولك؟ وصحوت بالعزل من سكرة الولاية، وتقرقرت بعد طلب الغاية؟ وعدت إلى إخوانك فوجدت أوطان أنسهم بك نابية، ونفوسهم للإقبال عليك آبية؟ ولو كان الزمن أمكنك من رقبتي، وطرق لك الطريق إلى إيداع عرفك في جهتي، لقبح بك أن تطول بطولك، وتدعي الفضل بفضلك، ولم يحسن أن تبدل الإنعام، وتضن بالالتزام، فإن كنت تفخر بسلفك وأبوتك، وتطأول بأوليتك وأسرتك، فلو كان أبوك كسرى، لما جبر منك كسراً، ولو كان جدك بخت نصر لما انتفعت به في مظاهرة ولا نصر، فدع أكثر ما فات، ولا تعول على العظام الرفات، فما استند إليها إلا عارٍ من الفضل عاطلٍ من الحلى. على أنك لو فاخرتنا بها لفخرناك، وتقدمنا وأخرناك، وإن كنت تستند إلى ديانتك، وتعتمد على نسكك وأمانتك، فهذه خالص حالٍ لا تخلص مرتبتها ولا تتم فضيلتها إلا باستشعار التواضع، والأخذ بمكارم الأخلاق لدى التنازع، فارجع هديتك إلى الأجل، واعمل بالأفضل، وقف بحيث رتبتك، ولا تتشوف إلى غير إلى الأجل، واعمل بالأفضل، وقف بحيث رتبتك، ولا تتشوف إلى غير درجتك، وإن أبيت ذاك فاقطع المراسلة، وأعفها من المواصلة، والسلام.
رقعة عتاب على تأخر المكاتبة: من حكم الوداد- أطال الله بقاء سيدي- الزيارة عند المقاربة، والمكاتبة عند المباعدة، وإن كانت المودة الصريحة لا يغيرها اجتناب، إلا أن الكتب ألسن البعاد، والأعين التي تنظر حقائق الوداد، ولها في القلوب تأثير، وموقعها فيها أثير، وحوشي مولانا أن أهز أريحيته لما يؤكد الثقة بإخائه، ويشهد بوفائه، ولا سيما وهو يفرض ذلك لأحبته، وقوله واجبٌ في شرع مودته.
رقعة في معناه: إن ابتدأ المملوك مولانا لم يجب، وإن سأله الابتداء لم يوجب، فلا حق لإجابة تؤديه، ولا ناجز المسألة تقضيه، فإن كان إذا شخص غابت عن فكره أشخاص أحبته، وإذا بعد عاملهم بتجافيه وجفوته، فقد كان ينبغي أن يتكلف ويتجمل، ويتصنع ويتعمل، فإنه لو علل مشوباً بالانتظار، أو اعتذر ممرضاً بالاعتذار، لأقمت ذلك مقام المكاتبة، وصنته عن محض المعاتبة، لكنه مال مع الملال، ورضي الاطراح والإهمال، ودل على أنه مستقلٌ بالإخوان، متنقلٌ مع الزمان، وأرجو أن تصدق المخيلة، ويرجع إلى العادة الجميلة.
رقعة معاتبة رجل كريم الأصل لئيم الفعل: قد عرف مولانا وفقه الله ووقفه على منهج الرشاد، أن جناية الغضب الذميم، تقدح في كرم الجنث الكريم، وأن قبيح الصلف، ينسخ تليد الشرف، وخبيث الذرية، يعفي على طب المناحت الزكية، وأنه ليس لمن تحلى بالظلم والجور، وتلبس بالنكث والغدر، وسامح نفسه باطراح الحقوق، واستيطاء العقوق، إلا إضاعة الحرم، وإخفار الذمم.
المعاتبة من كلام المتأخرين: الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي: يقبل الأرض وينهي أنه قد صار يرى قربه أزوراراً، وطويل سلامه اختصاراً، ويغالط في ذلك حتى شاهده عياناً مراراً، هذا وبكر الولاء، صقيلة الجلباب، وعروس الثناء، جميلة البزة حسنة الشباب، وهو لا يفتأ من الموالاة في صعد وقدره في صبب، فكلما مكن وتد الاستعطاف يرجو عدم تخلخله فصل بأيسر سبب، بحيث أطفأ الإهمال نار المساعفة والمساعدة، وانتقل توهم عدم العناية إلى تيقن وجوده بالمشاهدة، وقد كان يرفع قدره فخفض، وعوض في الحال عن الرفع بالابتداء، أنه مفرد وينصب كالنكرة في النداء، وأهمل حتى صار كالحروف لا تسند ولا يستند إليها، وألغي حتى شابه ظننت إذا وقعت متأخرةً عن مفعوليها، ومتى يقلق لأمر، أنشد نفسه كامل:
ما في وقوفك ساعةً من باس.
وكان يغشى مجلسه الكريم خدمةً وأداءً للواجب، وطلباً لعادةٍ أكدها إحسانه حتى صارت ضربة لازب، فلا يخلو مجلس من إظهار تغير عادةٍ وطد الجود أساسها، وانتقاض قاعدةٍ أبرم الكرم أمراسها، فينقطع سلوكاً للأدب وتخفيفاً عن الخواطر، ويتلقى ما يصدر بقلبٍ شاكٍ ولسانٍ شاكر، فإن كان قد عزم مولاه على طرده، وعوضه عن منحة القرب المحنة ببعده، فإنه يأبى ذلك جوده ولطفه، ومعرفة يشكر ويزيد، لا يمكن صرفه، ولو جاز الصرف لمجرد بالعبودية لمنعه العدل من سيده، والحلم الذي عرف من كريم محتده، فكان المملوك يستحسن في حبره وسبره، ويعوض عن مقابلته بجبره، فقد صار سمينه غثاً وشحمه ورما، وحديثه رثاً وسهله علما: [طويل]
وعين الرّضا عن كلّ عيبٍ كليلةٌ ** كما أنّ عين السّخط تبدي المساويا

وما ثم بحمد الله ما يوجب ذلك ولا بعضه، ولا يحدث ذم المملوك وبغضه، ولو بدا منه زلل، أو لمح منه خطل، فمكارم مولانا أوسع من إبقاء ذلك في صدور الصدور، وأحرى بمحو آيات السيئات فإنه لمن عزم الأمور.
وله: يخدم بدعائه، وصادق ولائه، وينهي أنه انكسر خاطره، وأرق جفنه وناظره، وتضاعف بلباله، وتزايدت في النقص أحواله، مذ تأخرت الأمثلة الكرام وانقطعت عنه بانقطاعها المنن الجسام، وهو يسأل العفو عن ذنبٍ وقع، وتشريفه بمثال يرفع من قدره ما وضع، واستعمال الصفح عنه كسائر عاداته، وإجراءه على اللطف الذي ألفه من تفضلاته، فقد ضعف صبر المملوك وجنانه، وتفرق للفراق جفنه وإنسانه، وصغر قدره، وأهمل جانبه وممن أمر بإهانته فخره، ولهذا ضاقت عليه المسالك، وكان لسان حاله ينشد في ذلك: [كامل]
وأهنتني فأهنت نفسي عامداً ** ما من يهون عليك ممّن يكرم

والمملوك معترفٌ بأنه ما زال يجهل ما يجب عليه من الخدم، ومقر بتقصيره عن القيام بحمل ما يواصل به من النعم، لكنه ألف من مولانا أن يقابل إساءته بالإحسان، وجهله بصفح لا يقوم بشكره اللسان، بل جميع الجثمان، فإن كان ذنب من المملوك هو الذي أوجب اطراحه، وأوجد أسفه وأذهب أفراحه، وكان أيسر مما تقدمه من جهله وإساءته، فحلمك جديرٌ أن يلحقه بإخوته، وإن كان قد تزايد مقداره، فالمولى قد تضاعف على العفو اقتداره، وإذا كبرت الخطيئة كثر أجر غفرانها، وعلت المجاوزة عنها على أقرانها، وعلى كلا الأمرين فقد استحق المملوك المغفرة بكل طريق، وأن يقابل رجاؤه بالتحقيق، وأمله بالتصديق.
وله: وينهي أنه ما زال يتلو آيات محاسنه وحمده، ويرفع رايات إحسانه ومجده، ويتولاه ولا يتولى عن محبته، ويكثر الثناء على ألمعي فطنته وجزير مروءته، وقد صار يشاهد من المولى ملالاً وصدوداً، وإعراضاً يغيظ به صديقاً ويسر به حسوداً، واطراحاً أوهمه أنه ألف وصلٍ درجت، أو لفظة هجرٍ لفظت، ولا يعرف له ذنباً يوجب إبعاده، ولا جرماً يستوجب به أن ينقض حبل وصله ويرفض وداده، ولا يعلم سبباً يوجب سبه، ولا شيئاً يحدث عتبه، مع أن المملوك أحق أن يبدأ بالإعراض، ويرفل من إغفال مودته في الثوب الفضفاض، فإن المولى آلمه بالقول مراراً، وجعل سحابة حيفه تهمي عليه مدراراً، وهو يحتمل الأذى ويغضي على القذى، ولا يظهر إلا محبة، ولا يبطن له إلا مودة، فإن شاهد المولى بعد إعراضه إعراضاً فليلم نفسه، أو أحرقه لهب نار الجفاء فلا يشكو مسه، يحيط بذلك علماً، ورأيه العالي.
شعر في العتاب: [كامل]
مولاي قد طال التّباعد بيننا ** أوما سئمت قطيعتي وملالي؟

إن لم ترقّ لحالتي يا هاجري ** مولاي قل لي من يرقّ لحالي

غيره: [طويل]
يباعدني عن قربه ولقائه ** فلمّا أذاب الجسم منّي تعطّفا

غيره [منسرح].
إن كان هجراننا يطيب لكم ** فليس للوصل عندنا ثمن

غيره: [كامل]
شمّتّ بي الأعداء حين هجرتني ** والموت دون شماتة الأعداء

غيره: [سريع]
تنام عيناك وتشكو الهوى ** لو كنت صبًّا لم تكن نائما

ولبعضهم: سيدي بادأني بلطفٍ من غير خبرة، وأعقبني جفاءً من غير ذنب، فأطمعني أوله في إخائه، وآيسني آخره من وفائه، فسبحان من لو شاء لكشف بإيضاح المبهم عن عزيمة الرأي فيه، والمملوك يقول: [متقارب]
عجبت لقلبك كيف انقلب ** وصفو ودادك أنّى ذهب

وأعجب من ذا وذا أنّني ** أراك بعين الرّضا في الغضب

أجوبة رقاع العتاب:
قال في مواد البيان: حكم أجوبة هذه الرقاع حكم رقاع أجوبة الاعتذار، إلا أنها لا تخلو من الإجابة بالإعتاب أو الإصرار على العتاب. قال: ويجب أن يسلك فيها المجيب مذهب المجيب عن رقاع الاعتذار.
زهر الآداب: في جواب العتب على تأخر مكاتبة: وعلم المملوك ما أشار به من العتب بسبب تأخر خدمه عن جنابه، وما توهمه من اشتغال المملوك بأهله وأصحابه، وحاشاه أن يتوهم في المملوك غير الولاء، والملازمة على الحمد والثناء، فهو لا يعتمد ذلك إلا تخفيفاً عن خاطره، ووثوقاً بما يتحققه المولى من خالص مودته في باطنه وظاهره، حرسه الله ووفقه، وفتح له باب لاسعادة ولا أغلقه، بمنه وكرمه.
زهر الربيع: جواب عتاب: زاد الله جنابه حناناً، وأسبغ عليه إنعاماً وإحساناً، وخلد له على كل عدوٍ سلطاناً.
ولا زالت همته سماءً لمناكب الكواكب، وأياديه تفيض على الأولياء غرائب الرغائب، ولا برحت سحائب إنعامه هأمية، وقطوف إحسانه دائمةً دانية، وشرائع مياه جوده تجفف جفوناً من الفاقة دأمية.
المملوك يجدد خدمته، ويواتر للمولى أدعيته، ويعترف بمننه التي أقرت بها ألسنة جوارحه فلا يستطيع أن ينكرها، ويغترف بيد تضرعه من بحار جوده التي تثعب الولي من سحابها إلى كل يولي وتقذف له جواهرها.
وينهي ورود الماتبة والعلم بمضمونها، والاحتواء على سائر معاني فنونها، وما أشار إليه من العتب الذي يرجو به بقاء الوداد، واستصحاب حال التواصل من غير نفاد، والمملوك فلا ينكر ذنبه، ولا يتنصل ولا يتوصل بل يعترف بجرمه وقلة خدمه، ويستمسك بالعروة الوثقى من إحسانه وحلمه، ويسأل مكارمه إجراءه على عادته بالصفح عنه ورسمله، وهو يرجو أن أم هذه الهفوة لا تلد لها أختاً، وأنه لا يعتمد إلا ما يزيده إلى المولى مقةً ويزيل مقتاً، فإن معاتبة مولانا قد وعتها أذنٌ واعية، ومراضيه لا تخفى على المملوك بعد ذلك منها خافية، إن شاء الله تعالى.
آخر: أسعد الله المجلس وعطف للأولياء قلبه، ونصر كتائبه وأنفذ كتبه، وأرهف في نصرة الإسلام سنانه وعضبه، وألهم حبة قلب الزمان حبه، وأقدره على الحلم الزائد حتى يغفر به لكل مذنب ذنبه.
وينهي ورود الكتاب الذي أعدته يد مولانا فصار كريماً، وكسته عبارته ثوب براعته فأصبح منظره وسيماً، واستنشق عرف نسيمه المبارك فطاب شميماً، وعلم المملوك منه شدة عتبه، ومر التجني الذي ظهر من حلو لفظه وعذبه، ولم يعرف لعتبه موجباً، ولا لتغير مودته سبباً، فإنه ما حاد عن طريق ولائه ولا حال، ولا زلت قدمه عنه ولازال، ولا ماد عن منهج المودة ولا مال، وما فتيء لمحاسنه ناشراً، ولإحسانه شاكراً، فإن كان قد نقل عنه إلى مولانا شيءٌ أزعجه، وأخرجه عن عادة حلمه وأحرجه، فإن الوشاة قد اختلقوا قولهم ونقلهم، وقصدوا تشتيت المصاحبة شتت الله شملهم: [طويل]
وقد نقلوا عنّي الّذي لم أفه به ** وما آفة الأخبار إلاّ رواتها

آخر: وردت المشرفة العالية أعلى الله نجم مرسلها، وأسبغ أياديه وشكر جسيم تفضلها، فابتهجت الأنفس بحلولها وحلل جمالها، وعوملت بما يجب من إكرامها وإجلالها، وفض ختامها ففاح منها أرج العبير والعنبر، وتليت ألفاظها التي هي أبهى من الرياض وأحلى من السكر، فأغنت كؤوس فصاحتها عن المدام، وأزال مباؤها الزلال البارد حر الأوام، وأعرب منشيها عما في ضميره من العتب، والضيق الذي حصل في ذلك الصدر الرحب، وهو يقسم بنعمته، وبصادق محبته، أنه لم يبد منه ما يوجب عليه عتباً، ولا انثنى عن الثناء على محاسنه التي شغفته حباً، فإن كان المولى قد توهم شيئاً أحرجه وأقلقه، وإلى أليم العتب شوقه، فليزل ذلك الوهم من خاطره، وليثق بما تحقق من موالاته في باطنه وظاهره، ورأيه العالي.
آخر: أعز الله عزماته، وشكر جسيم تفضلاته.
ولا زالت نعمته باقية، وقدمه إلى درج المعالي راقية، وهمته إلى السمو على الكواكب سأمية، وسماء جوده على العفاة هأمية، وعزمته لثغور الإسلام حأمية، عبد نعمه، وغرس كرمه، يعلمه بصدق وده، والمداومة على شكره وحمده، وأنه وقف على مشرفه وفهمه، وشاهد منه عتبه وعلمه، وهو لا يشكو من المولى جفاءً ولا يعيب، وعن طريق المصافاة والمخالصة فلا يغيب، بل يقول [كامل]
أنت البريء من الإساءة كلّها ** ولك الرّضا وأنا المسيء المذنب

والمرجو من لطافة أخلاقه، وطهارة أعراقه، أن يصفح عن زلته، ويعفو عن ذنبه وإساءته [طويل]
فأنت الّذي ترجى لتخفيف زلّتي ** وتحقيق آمالي ونيل مآربي

وقربك مقصودي وبابك كعبتي ** ورؤياك يا سؤلي أعزّ مطالبي

قلت: وكتبت إلى المولى شهاب الدين الدنيسري، وقد بلغني عنه مساعدة بعض الجهال علي في بعض الأمور: [طويل]
عهدت شهاب الفضل يرمي بسهمه ** شياطين جهلٍ أن تداني جنابه

فما بال مولانا على فرط فضله ** يعرّف شيطان الجهالة بابه؟

النوع الرابع عشر: العيادة والسؤال عن حال المريض:
رقعة عيادة: وينهي أنه اتصل بالمملوك من ألم مولانا- أطال الله بقاءه- وحرس حوباءه- ما أهمى مدامعه، وأحمى أضالعه، ومزق جلده، وحرق خلده، وأطار الوسن عن عينه، ونفر الهدوء عن مضجعه، حتى تدارك الله تعالى بكتابه الناطق بإقلاع الملم، المعرب عن دفاع المهم، فرقأ من دموعي ما أرفض، وجبر من ضلوع المملوك ما ارتض، والتأم من جلده ما تفطر، وبرد من خلده ما توقد، وجثم ما طار من وسنه وآنس من الهدوء ما نفر عنه، والتأمت الآمال بعد انثلامها، وبرزت ثمار الأماني من أكمامها، وطلع من الرجاء آفله، وروي من السرور ما حله، وتجدد من السؤدد طامسه، وضحك من الزمان عابسه، والله تعالى يغض طرف الحدثان، عن مهجته، ويصرف صروف الزمان، عن ساحته، ويهنيه بما أعاده إليه من الإبلال، ويمليه بما أفاضه عليه من الاستقلال، بمنه وكرمه، إن شاء الله تعالى.
رقعة: وينهي أن ما خامره من قلق وجزع، وفرقٍ وهلع، بسبب ما بلغه من شكوى مولانا لا تحصره الأوهام، ولا تسطره الأقلام، ولولا ثقة المملوك بالله تعالى لوهت عقد صبره، ولا نخلع فؤاده من صدره، وقد علم الله تعالى أن هذا الألم لو نقل إلى المملوك لما ثقل عليه، وكيف يستثقل ما يخفف عن مولانا وصبه ويحسمه، ويعكف له سلك الشفاء وينظمه، والله تعالى يجعله في أمانٍ من كفايته، وضمانٍ من حياطته، إن شاء الله تعالى.
أجوبة كتب الشفاعات والعنايات:
قال في مواد البيان: هذه الكتب إذا أجيب الملتمس إلى حاجته فينبغي أن تبنى أجوبتها على شكر مقصد الشافع، والإدلال والاسترسال وإنالة المشفوع له وطره إيجاباً لحق الشافع، وإن وقع الامتناع والتوقف عن الإجابة إلى الملتمس، فالواجب أن تبنى على إقامة العذر لا غير.
زهر الربيع: جواب شفاعةٍ في حق كاتب: جدد الله له السعادة وخلدها، وأصارها له شعاراً وأبدها، ووطد به الممالك ومهدها، وعضد به طائفة الإسلام وأيدها، وشكر له صنائع يعد منها وليٌ ولا كلٌ يستطيع أن يعددها.
المملوك يقبل اليد الشريفة أداءً للفرض اللازم، وشكراً لما أولته من الأيادي والمكارم، وحمداً لألطافه التي أطمعته بالتمييز فأصبح برفع قدره كالجازم.
وينهي ورود المشرف الذي نزه ناظره، وجبر قلبه بحسن ألفاظه وخاطره، والعلم بما أمر به، وشفع إلى المملوك بسببه، وهو الكاتب الذي أشار إليه، وقد ركن إلى ما شكره به المولى وأثنى به عليه، وأعتقد يمن إغارة الشافع فعقد على المشفوع فيه خنصرة، وتقدم بترتيبه في ديوان إنشائه، وجعله من جملة خواصه وخلصائه، وفعل ذلك كله اتباعاً لإشارته، وقبولاً لشفاعته، فالمولى يواصل بمراسمه وأمثلته، فإنها ترد على مرتسم ممتثل.
ومنه: جواب شفاعةٍ في استخدام جندي: ضاعف الله تعالى نعمه، وأهرف في نصرة الإسلام وقلمه، ولا برحت ألسنة الأنام ناطقةً بولائه، وأيدي ذوي الرجاء مملوءةً من فواضل نعمائه.
المملوك يواصل بأدعيته الصالحة، ويستنشق روحاني ريحكم فيسكن منه بلذيذ تلك الرائحة، ويشكر له ما منحه من المكارم، ويباهي بعزماته الليوث الضراغم، فلا يجد مضاهياً لتلك العزائم.
وينهي ورود المثال الذي أشرقت الوجوه بنوره، وابتهجت الأنفس ببلاغة منشيه ووشي سطوره، وعلم إشارة المولى في معنى فلان، أدام الله سعده، وأعذب منهله وورده، والتوصية بأمره، وما أبداه من حمده وشكره، وأن يقطع إقطاعاً يليق بأمثاله، ويتفيأ من خراجها ضافي ظلاله، وعند مثول مثاله العالي امتثل والتثم، واستخدم المشار إليه لإشارته وخدم، وهذا بعض ما يجب من قبول أمره، وتعظيم كتابه وتبجيل قدره، فيواصل بمراسمه فإنها تقابل بالارتسام، ومشرفاته فإنها تعامل بوافر الإكرام.
جواب شفاعة في الجملة: [كامل]
قل ما تشاء فإنني لك طائعٌ ** ما أنت عندي شافعٌ بل آمر

جعله الله لكل خيرٍ سبباً، وحقق به لأوليائه ظنوناً وحصل أرباً، ووفر له من أجر شفاعته الحسنة نصيباً، وأدامه عن كل شرٍ بعيداً وإلى كل خيرٍ قريباً.
المملوك ينهي تألمه لفراقه وما يجده من صبابته وشدة أشواقه، ويعانيه من حنينه وأتواقه، وأنه ورد عليه كتابه فاستلمه ولثمه، وبجله وعظمه، وعلم ما أشار إليه، وأخذ أمر المشفوع فيه بكلتا يديه، وجعل قضاء أربه أمراً لازماً، وما فتيء على ساق الاجتهاد قائماً، إلى أن حصل غرضه، وأدى من حسن القيام بأمره ما أوجبه مشرفه العالي وافترضه، والمولى آمرٌ غير شفيع، ومهما ورد من جهته على المملوك فواردٌ على سميع مطيع، فيواصل من مراسمه بما سنح، ومن أخباره بما تأرج طيب عرفه ونفح، ورأيه في ذلك العالي.
آخر: شكر الله عوارفها، وتالد جودها وطارفها، ووافر ظلالها ووارفها، وينهي ثناءه على معاليه ومداومته على بث محاسنه ونث أياديه، وحمد عواقب إحساه ومباديه، وشدة أشواقه إلى جنابه، ولذيذ مشاهدته وخطابه، وما يعانيه من غرامٍ لازمه ملازمة الغريم، وداء صبابةٍ يضاعف شوقه إلى رؤية وجهه الوسيم، ومداومته على التعوض بشكر محاسنه عن المدامة والنديم، ونظم جواهر مدحه لجيد جوده، وحمد المولى على ذلك التنظيم، وأنه ورد عليه مشرفه العالي فقبله، ودعا لمرسله دعاءً يرجو من الله تعالى أن يستجيبه ويتقبله، وحصل له بوصوله ابتهاجٌ عظيم، وقال لمن حضر وروده {يا أيها المَلأُ إنِّي أُلْقِيَ إليَّ كتابٌ كَرِيم} وفهم مضمونه وفحواه، وعلم معناه وما أظهره فيه وأبداه، من الوصية بفلان وما يؤثره من تسهيل مطالبه، وتيسير مآربه، ووصل المشار إليه وحصل الأنس برؤيته، وتمتعت النواظر والمسامع بمشاهدته ومشافهته، وقام المملوك في أمره قياماً تاماً، وجعل عين اجتهاده في مصلحته متيقظة لا تعرف مناماً، وشمر عن ساق الاجتهاد، في تحصيل المرام والمراد، إلى أن حصل له الفوز بنيل أمله، وعاد راتعاً من العيش في أخضره وأخضله، رافلاً من السرور في أبهى حلله، فيحيط علمه بذلك، والله تعالى يعضد به الدول والممالك، إن شاء الله تعالى.
آخر: جعله الله مفتاحاً لكل بابٍ مرتج، وصدق به أمل كل آمل وحقق رجاء كل مرتج، ولا زالت سحائب جوده هأمية بالوسمي والولي، ماطرةً بوبلها وطلها على الولي.
المملوك يخدم بتحية أرق من النسيم، وسلامٍ أطيب عرفاً من بان النقا إذا تحملت عرفه ريح الصريم.
وينهي إلى علمه الكريم ورود مشرفته وأنه أحاط بمضمونها علماً، وشاهد منها في حال طيها مكارم أصارت تفضيله على حاتمٍ الطائي حتماً، ووقف منها على در لفظ قذفه بحر خاطره نثراً ونظماً، وبراعة عبارة زادت قلب مواليه غراماً وأنف مناويه رغماً، وفصاحة عرفته قوله صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكماً وفهم عنايته بفلان نفع الله بعلمه وعمله، وقرب له من الخير ما لا يطمعه به بعيد أمله، وإشارته بسبب التنبيه والإرشاد على جمل فضائله، ومفصل مناقبه المشهورة في البلاد، وإيضاح كفايته في وجيز تلك الفصول الصحاح الإسناد، فحال قدوم المذكور وحلوله، وورود مشرفه ووصوله، أنهى المملوك أمره إلى مخدومه، وطالع به شريف علومه، ولا زال يحسن سعيه، ويعتمد على مشيئة الله ولا يترك حرصه ومشيه، إلى أن حقق قصده بقضاء شغله، وقرب له أمد أمله، وكتب توقيعه ولم يرد الله تعويقه، ونجع طعم قصده وأنجح الله طريقه، وقد عاد مصحوباً بالسلامة، معروفاً بتحصيل هذا القصد بأنه طلاع الثنايا من غير وضع العمامة، حسب إشارة المولى وأمره، والله تعالى يمده بصونه ونصره.
آخر: في استخلاص حق.
شكر الله إحسانه وإنعامه، وحصل به لكل وليٍ مرامه، وحمد تطوله وتفضله، وأنال به لكل آملٍ أمله، وخلد دولته، وأدام نعمته، وأنفذ كلمته، ولا زال فضله كاملاً، وإحسانه إلى الأولياء واصلاً، ونواله لبني الآمال شاملاً.
المملوك يخدم أحسن من نور الربا، وثناءٍ ألطف من ريح الصبا، وسلامٍ أطيب بمروره من تذكر أيام الصبا.
وينهي ورود الكتاب الذي طاب بالمولى محتده ونجاره، وزاد على كتائب الكتب فخاره، وأنه وقف عليه وقوف مشتاقٍ إلى مرسله، شاكرٍ أنعم فضله وجسيم تفضله، فأسكرته تلك الفصاحة بشذاها الأرج، ونزهت لحظه في در لفظها البهج، فظنها لما استنشق رائحتها راحاً قرقفاً، ولما أبهجه لفظها بألفاظ تزهي على الرياض روضةً أنفاً، وعلم الإشارة الكريمة في معنى فلان والوصية بخدمته، وما أمر به من مساعدته ومساعفته، وعند وصول مشرف المولى وقبل وضعه من يده، نوى المملوك مساعدة المذكور على مقصده، فتقدم بإحضار غريمه فوجده عن البلد غائباً، فانتظره إلى أن عاد آئباً، فعند وصوله طلبه وأحضره، وسأله عما يدعيه عليه خصمه فأنكره، وطلب الحضور إلى القاضي، وحث على ذلك حتى أوهم أنه المتقاضي، فلما رأى المملوك أن حجة المشفوع فيه لا تقوم بصدق دعواه وحجج، ولا يظهر بها على غريمه إلا من طريقٍ حرج، بذل في مصالحتهما جهد الاجتهاد، وما زال يرشدهما إلى طريق الرشاد، ويدلهما على سبيل السداد، ويعرفهما أن التضارر ضير، وأن الصلح خير، فكل منهما يهيم في واد، ويسلق خصمه بألسنةٍ حداد، إلى أن تراضيا وتوافقا، وسلكا طريق الرفق وترافقا، وصدق الخصم خصمه فتصادقا، وانفصلا وكلٌ منهما قد أرضى خدنه، وعن المحاكمة والمحاققة أغضى جفنه.
آخر: أيد الله سعد المولى وأبده، وأثل مجده ومجده، وأعانه على إسداء العوارف وعضده، وأمده من المسرات بما يزيل عن الأيام أبده، وأناله سعداً لا تبلغ الأنام أمده، ولا زال برد جده من السعادة جديداً، ونجم عدوه آفلاً ونجمه سعيداً.
الذي نحيط به علمه الكريم أن كتابه ورد فسرى هم الأنفس وسرها، وضاعف بما ضاع من نشره بشرها، وفاح منه شذاً عند إقباله، فقيل: قد هبت القبول، ورنح الأولياء، فقيل: قد هبت ريح الشمال وأديرت الراح الشمول وأن المملوك وقف منه على ألفاظٍ سقته كؤوس سرورٍ لا كؤوس مدام، وروت له أخبار حلم لو أسندت إلى سواه لتوهمت أضغاث أحلام، وروت أكباداً أضر بها لغيبته حر ظمإ وأوام، وبينت سحر البيان، وأعربت بلسان حسنها عما لمنشيها بل موشيها من الإحسان، وأغربت في الفصاحة فخلنا كل كلمة تنطق عن سحبان بلسان، وزهت بيانع ثمار فضلها فنزهت كل عين في بستان، وعلم إشارة المولى في معنى فلان، وما أبداه من العناية في حقه، والإيثار لصلة رزقه، وأنه من الألزام، والذين تجب معاملتهم بالإكرام والاحترام التام، وعندما شاهد المملوك كتاب من شرفه، وسمع ألفاظه التي بلطفها أتحفه، بل بردائها على البرد ألحفه، تقدم بإجابة سؤاله، وترتيبه في جهةٍ تليق بأمثاله، وقمصه من العناية قميصاً لا يبلى، وجمع لخاطره والدعة شملاً، وهذا حسب إشارة المولى التي لا تخالف، وأمره الذي يقف كل أحدٍ عنده ولا يستوقف ولا يواقف.
كتاب إلى مريض بالسؤال عنه من كلام المتأخرين [مجزوء الكامل]
حاشى مزاجك من أذًى ** وكريم جسمك من وصب

يا غاية المأمول وال ** مرجوّ يا كلّ الطّلب

جفني غريقٌ بالدّمو ** ع وماء صبري قد نضب

واللّه مالي في البقا ** ء وأنت ناءٍ من أرب

فترى أبشّر سيّدي ** أنّ اللّقاء قد اقترب؟

حرس الله مزاج المولى! وأصار العافية له شعاراً، والصحة له دثاراً، ولا زالت ساكنةً في جوانحه، مقيمةً حشو أعضائه المباركة وجوارحه.
أصدرها المملوك تعرب عن شوقٍ يكل عن وصفه اللسان، وتوقٍ لا يحسن وصفه البنان، ولاعجٍ يعجز عن حمل بعضه الجنان، ملتمساً المواصلة بأخباره، وواصفاً ما يجده القلب من ألم الشوق وناره، وشاكياً من جور أيام الفراق، وراجياً أن يبشر بالإبلال من مرضه والإفراق، وداعياً إلى الله بتعجيل أيام التلاق. ومع ذلك فلو رمت أن أشرح كل ما أجده من الصبابة لأسأمت وأسهبت، بل لو ذكرت ما أعانيه لألمه لثقلت على خاطره وشوشت، لكن خاطر المولى شاهدٌ بوجدي، وعارفٌ بما تحملته من الكآبة التي لم يحملها أحدٌ قبلي ولا تحمل بعدي، فيواصل بأخباره، والله يحرسه آناء ليله وأطراف نهاره، إن شاء الله تعالى.
في معناه: [كامل]
يا من شكا فشكا فؤادي حرقةً ** لا تنطفي وصبابةً لا تبرح

وغدا سقيم الجسم يوماً واحدًا ** فنزحت دمعاً للمدامع يجرح

وازداد شوقي نحو طلعته الّتي ** أبدًا بيمن بهائها أستنجح

لا زلت في عزٍّ وسعدٍ دائمٍ ** أيّامنا ببقائها تتبجّج

وبقيت ما بقي الزّمان مؤيّداً ** تمسي قرير العين فيه وتصبح

كمل الله عافية المولى وحرسه، ولا سلبه ثوب الصحة بل قمصه إياه وألبسه، وأخدمه الأيام فلا تستطيع مخالفة أمره ولا الخروج عن حكمه، ورزقه أن يملك الدنيا بحذافيرها وهذا يحصل بعافية جسمه.
المملوك ينهي أنه اتصل به تألمه فشق ذلك عليه، ووصل من القلق إلى حدٍ لم يصل المولى والحمد لله إليه، وابتهل إلى الله في معافاة جسده، وأن يعضده ببقاء والده وولده، ويضاعف تسهيل مآربه ومقاصده، ويرفع كلمته وقدره على رغم معطس شانيه الأبتر وحاسده، إن شاء الله تعالى.
جوابٌ إلى من قنطره فرسه: ثبت الله قواعد مجده، وبلغه سعداً لا تبلغه الآمال لبعده، وأهمى على محبيه سحائب جوده ورفده.
المملوك يخدم بتحية أرق من النسيم، ويشكر مواهبه التي ما زالت تحنو عليه حنو المرضعات على الفطيم.
وينهي ورود الخبر بأنه كبا به جواده عندما زلت قوائمه، وأثقلته فضائل المولى ومكارمه، فانزعج لذلك وتألم، وكاد قلبه لولا المبشر بسلامته أن يتكلم، وجواد المولى لا سبيل إلى ذمه، فإنه أسمح جواد، ولا اتهامه بالعجز، فإنه عرف بإتهام وإنجاد [بسيط]
لكنّه نظر الأفلاك ساجدةً ** إلى علاك فلم تثبت قوائمه

والمولى أولى من قابل عذر طرفه بطرف القبول، واعتمد عليه دون سائر الخيول، فإن المولى ولله الحمد في صحةٍ دائمة، وسلامةٍ ملازمة، وهذا هو القصد والمراد، والاستبشار الذي تفتر له ثغور الثغور وتعمر به البلاد، جعله الله في سعدٍ ما له فراغٌ ولا نفاد، ورزقه ما دعا به العماد الفاضل والفاضل العماد، إن شاء الله تعالى.
أجوبة كتب العيادة:
قال في مواد البيان: يجب أن تبنى هذه الأجوبة على وصول الرقعة، وما صادفت المرض عليه من المرض، وأنها أهدت روح الهدوء، وأركدت رياح السوء، وأقبلت بنسيم الإبلال، وتضوعت بأرج الاستقلال، وبشرت بالعافية والسلامة، وآذنت بالصلاح والاستقامة، وأشباه هذا.
ابن نباتة المصري: شكر الله افتقادها وأنسها، وقلمها وطرسها، وحمى من عارض الخطب لا من عارض الخصب شمسها، ولا أعدم الأولياء قصدها الجميل، وودها الجليل، وإحسان رسائلها التي كرمت فما صوب الغمام لهار سيل، وأمتع الممالك بيمنها التي صحت بتدبيره فليس غير النسيم عليل.
وينهي ورود المشرف الكريم فتلقاه المملوك حبيباً وارداً، وطبيباً بإحسانه وللجسد عائداً، وفهم المملوك ما انطوى عليه من الصدقات التي ما زالت في فهمه، والمحبة الصادقة التي ما عزبت عن علمه، وما تضمن من فصولٍ كانت أنفع من فصول أبقراط لمعالجة جسمه، وأين أبقراط من بركات كتاب مولانا الذي طالع منه كتاب الشفاء على الحقيقة، والنجاة من عروة البأس الوثيقة؟ وأدنى ورقته الحمراء لرأسه تبركاً وإكراماً وقال: نعم الجلنارة المعوذة من الشقيقة، واستطب حروفها فإنها عن أيدي الكريم والكرامات، ولثم العلامة وتمسك بالسطور فإنها من أسباب الصحة والعلامات؟ ووافقت عيادة مولانا مبادي العافية وآذنت بالزيادة، وصلح خطه الكريم عائداً وما كل خطٍ يصلح للعيادة، وما تلك الجارحة المتألمة إلا يدٌ أثقلتها منن مولانا فأعيت وتألمت، ثم أعانتها بركته هي والقدم بالحمل العظيم وتقدمت، وما بقية الجوارح إلا عيونٌ كانت تنتظر لطف الله تعالى وبركته وقد قدمت، فشكراً لها من بركاتٍ تنعم بها قبل الجسوم أرواحها، وأدويةٍ قلبية تعالج بها ذوات النفوس فكيف أشباحها، لا برح جوهر كلمات مولانا يؤذن بالشفاء من العرض، وسهام أقلامه إذا كتبت عائدةً أو جائدةً أصابت الغرض وفوق الغرض.
وله: تقبل الله منه وفيه صالح الأدعية، وملأ بمحاسن ذكره وبره الآفاق والأندية، وشكر هباته وبركاته التي تنزل بعارض الغيث قبل الاستمطار وترفع عارض الألم قبل الأدوية، تقبيل معترفٍ بسابق النعم، مقيمٍ على صحة العبودية والولاء في حالتي الصحة والسقم.
وينهي ورود مشرف مولانا الكريم على يد فلان عائداً من جهة العيادة، وعائداً من جهة الصلات المعتادة، ومفتقداً لا عدم الأولياء في الشدة والرخاء افتقاده، ما كان إلا ريثما نشق العليل نسماته الصحيحة، وتنأول كأس ألفاظه الصريحة، وإذا بقانون المزاج قد هم باعتداله، وكتاب الشفاء والنجاة قد تسنت فوائد إقباله، فتميز حال الصحة من المرض، واستعمل جوهر الألفاظ فعزم على زواله العرض، وبلغ الولد فلان المشافهة وكل مقاصد مولانا مبتدأة مبتدعة، والمملوك جوابها وكل أجوبته منوعة، شكر الله عوارف مولانا المتصلة، ورسل افتقاده التي منها العائد ومنها الصلة.
وله في جواب كتاب عيادة وارد في يوم عيد على يد من اسمه جمال الدين محمود: شكر الله مننها التي إذا أبدت أعادت، وإذا جادت أجادت، وإذا كررت الافتقاد حلا، وإذا تصدت لمودات القلوب صادت، تقبيل ملخصٍ في ولائه وابتهاله، مقيم على صحة العهد والحمد في صحته واعتلاله.
وينهي ورود مشرفة مولانا الكريمة على يد الولد جمال الدين محمود متفقداً على العادة، مكرراً لعيادة الإحسان وإحسان العيادة، فقابل المملوك بالحمد واردها، وبعوائد الاعتداد عائدها، وفهم ما تضمنته من تألم قلب المالك على ضعف المملوك وقلق خاطره على بدن كبيت العروض منهوك، وأنه كان ابتداء ضعف المملوك فتألم، ثم تلا خبر الصحة فتلا، ولكن الله سلم، ثم بلغه أن آلاماً تراجعت، ومواد واصلت بعدما قاطعت، فحملته خواطر الإشفاق علي على تكرير العيادة، وارتقاب فعلات الشفاء المستجادة، جارياً من إحسانه وافتقاده على أجمل معهود، باعثاً مشرفته وحاملها وكلاهما حسن الحال محمود، فعندما وصلا أوصلا كمال العافية، وحققت أخيلة البرء الشافية، وما كان المشكو إلا مادة يسيرةً وزالت، وبقية ضعف تولت بحمد الله وبركة مولانا وما توالت، وما عيد المملوك إلا وشفاء الجسد في ازدياد، والنفس بالوقت وبالمشرفة في عيدين قائمين بأعياد، لا زالت منن مولانا إزاء اللحظ حيث دار، ووده وحماه جامعين فضل الجار والدار.
زهر الربيع: لا زال محروس الشيم، هاطلةً سحائبه بالديم، مشكوراً بلساني الإنساني والقلم.
المملوك يقبل يده الشريفة مؤدياً للواجب، ويواصل بدعاءٍ صالحٍ أصاره إنعامه ضربة لازب.
وينهي إلى كريم علمه ورود مشرفه الذين أبهج الأنفس وضاعف الصبابة، وأفنى الصبر عن محياه وإن كان ما أفناه أيسر صبابة، وأنه علم منه إنعامه وتشوفه إلى المملوك وإلى سماع أخباره، وما أبداه من شفقةٍ ألفت من إحسانه وعرفت من كريم نجاره، وتحققت من شيمه على من ينأى عن بابه العالي وداره، فالله يحرس هذه الأخلاق التي هي أرق من الماء الزلال، والشمائل التي تفعل بلطفها فعل الجريال، والمملوك فوالله لا يحصي شوقه إلى الخدمة العالية ولا يحصره، ولا يقدر على وصف ما يسره من الأتواق ويظهره، إنما الاعتماد في ذلك على شاهدي عدلٍ من خاطره وقلبه، وهما يغنيان المملوك عن شرح ولائه بألسنة أقلامه ووجوه كتبه، وأما السؤال عن أخبار مزاج المملوك فإنه كان في ألمٍ دائم، وسقمٍ ملازم؛ لشدة المرض، الذي كان يحتوي على جوهر جسمه والعرض، فمذ ورد كتاب المولى انتعشت قوته، واشتدت منته، وصدقت في طلب تنأول الغذاء شهوته، وترجى الشفاء بعد أن كان على شفا التلف، وكان له كالطبيب الآسي في إزالة مرض الأسا والأسف. وقد حصلت للمملوك مسرتان بكتاب المولى وعافيته، وفرحتان بما أهداه إليه من عفو إنعامه ومحو أثر الألم وتعفيته، وكل ذلك بسعادته.
ومنه: ورد المشرف العالي لا زال قدر مرسله شريفاً، وشرفه الباذخ يجعل كل شريفٍ مشروفاً، وسحائب جوده تهدي إلى الأولياء من مكارمه تليداً وطريفاً، وقواضبه ترد طرف حوادث الأيام عنه مطروفاً، وأياديه تبعث لمحبيه تحفاً، وهيبته تهدي إلى الأعداء خوفاً، والدهر بخدمة جنابه العالي مشغوفاً، فوقف عليه وقوف مشتاقٍ إلى مسطره، متنزه في ربيع ألفاظه وحسن أسطره، وعرف منه إحساناً ما فتيء يعرفه، وتفضلاً ما زال المولى بمثله يتحفه، وما أشار إليه من شدة إيثاره، لرؤية المملوك وسماع أخباره، والذي ينهيه أن جسده كان قد تضاعف ضعفه، حتى أتعب الألسنة وصفه، فلما وقف من مشرف المولى على خطٍ هو الوشي المنمنم، وألفاظٍ هي الرحيق المختم بل الدر المنظم، وسحرٍ هو محلل وكل سحرٍ محرم، أبل المملوك وبردت غلته، وبرأت علته، وكان كمن استوفى نصيبه من النصب، وأخذ قسمه من السقم والوصب، فسقاه مشرفه الصحة في كاس، وأفاض عليه من العافية أفخر لباس.
آخر: [كامل]
ورد الكتاب فعمّت الأفراح ** وأضاء في ليل الأسا الإصباح

وافترّ ثغرٌ للزّمان بفرحةٍ ** وللفظه طربت ربًى وبطاح

وتضوّعت أرواح طيبٍ عرفها ** تحيا به الأجسام والأرواح

وسقى سلاف فصاحةٍ وبلاغةٍ ** ما المسك عند شميمها ما الرّاح

شكر الله مننه، وأخدمه زمنه، ومنحه من العيش أغضه وأحسنه، وشرف ببقائه الدهر وشنف بمدحه أذنه.
المملوك ينهي إلى علمه وصول مشرفه الذي تنزهت الأعين في حسن منظره، ويانع ثمار لفظه البديع ووشي أسطره، وأنه استنشق من ريحه أطيب نفحة، وتقمص منه ثوبي دعةٍ وصحة، فشفى داءً شف منه جسمه، وزاد لوروده سروره وزال همه، وعلم إنعام المولى الذي لا يشك فيه، وإحسانه الذي لا يحصره لسان مادح ولا يحصيه، وما ذكره من الألم الملم به واشتغال خاطره الكريم لما ألم بجسمه، والمرض بسعادة المولى قد بقي منه قله، وتقلص بعدما امتد ظله، والعافية تتكمل إن شاء الله تعالى برؤية محياه الكريم ومشاهدته، والمثول بين يديه العاليتين في خدمته.
؟النوع الخامس عشر؟في الذم ذم بخيل لأحمد بن يوسف: كأن البخل والشؤم صارا معاً في سهمه، وكانا قبل ذلك في قسمه، فحازهما بالوراثة، واستحق ما استملك منهما بالشفعة، وأشهد على حيازتهما أهل الدين والأمانة، حتى خلصا له من كل مانع، وسلما له من تبعة كل منازع، فهو لا يصيب إلا مخطياً، ولا يحسن إلا ناسياً، ولا ينفق إلا كارهاً، ولا ينصف إلا صاغراً.
وفي مثله: وصل كتابك فرأيناك قد حليته بزخارف أوصافك، وأخليته من حقائق إنصافك، وأكثرت فيه الدعاوى على خصمك، من غير برهان أتيت به على دعواك وزعمك.
ومنه: ولو أراد غير ذلك من الأخلاق السنية، الشريفة الهنية، لاستوحش في سبلها، ووقع في مضة منها، ولن يجد من سلفه ولا نفسه دليلاً عليها، ولا هادياً إليها.
ومنه: لأبي العيناء: أما بعد، فلا أعلم للمعروف طرقاً أحذر ولا أوعر من طريقه إليك، ولا مستودعاً أقل زكاءً ولا أبعد ثمرة خيرٍ من مكانه عندك، لأنه يحصل منك في حسبٍ دني، ولسان بذي، ونسبٍ قصي، وجهلٍ قد ملك طباعك، فالمعروف لديك ضائع، والشكر عندك مهجور، وإنما غايتك في المعروف أن تحرزه، وفي وليه أن تكفر به.
ومنه: لمحمد بن الليث: بكم علن الظلم، وظهرت البدع، واندفن الحق، وعز الفاجر، وظهر الكافر، وفشت الآثام، ونقضت الأحكام، واتخذ عباد الله خولاً، وأمواله دولاً، ودينه دخلاً.
ومنه: لأبي علي البصير: عدوك منعزل عنك، وصديقك على وجل منك، إن شاهدته عاقك، وإن غبت عنه حاقك، تسأله فوق الطاقة، وترهقه عند الفاقة، وإن اعتذر إليك لم تعذره، وإن استنصرك لم تنصره، وإن أنعم عليك لم تشكره، ولا يزيدك السن إلا نقصاً، ولا يفيدك الغنى إلا حرصاً، تسمو إلى الكبير، بقدر الصغير، وتشف للتطفيف لا للتخفيف، تعترض الناس بالسؤال، غير محتشم من الإملال، ولا كارهٍ لأن ينظر إليك بعين الاستقلال، حتى لقد أخرجت الأضغان، وقبحت الإحسان، وزهدت في اصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، والناس منك بين أسرارٍ تفشى، وبوائق تخشى، وشناعاتٍ واردة، ونوادر باردة. ودك تخلق، وشكرك تملق.
ومنه: لسعيد بن حميد: رجلٌ يعنف بالنعم عنف من قد ساءته بمجاورتها، ويستخف بحقها استخفاف من لا يخف عليها محملها، ويقصر في شكرها تقصير من لا يعلم أن الشكر يرتبطها، ومن كانت هذه حاله في اختياره لنفسه، فكيف أرجو حسن اختياره لي؟ ومن كان في مدة من ابتلاء الله بعيدة ما بين الطرفين لا أدري أينفذ بي الأجل إلى أقصاها؟ أم يقصر بي في أدناها؟ فكيف يتسع الصدر للصبر عليه؟ إن الله لا يخاف الفوت فهو يمهله، وإنه إن مات لم يخرج من سلطان الله جل وعز إلى سلطان غيره فيعاجله، وأنا على خوفٍ من إعجال المدى عن بلوغ مناي فأذهب حرجاً صدري، وعلى ثقةٍ من الشغل في الآخرة بنفسي عن التشفي من أهل عداوتي وترتي، وأحمد الله على المحنة، وأسأله تعجيل روح النعمة، وفسحة العافية.
النوع السادس عشر في الأخبار:
قال في مواد البيان: كتب الأخبار وإن كانت من الكتب الكثيرة الدوران في الاستعمال فليست مما يمكن تمثيله، ولا حصر المعاني الوامقة فيه برسوم تشتمل عليها، نعم ولا أن نقدم له مقدمةً تكون توطئةً لما بعدها، كما يجري الأمر في سائر فنون المكاتبات الأخر التي لا تخلو من مقدمات تحل منها محل الأساس من البنيان، والرأس من الجثمان، لكن المقدمات التي توضع في الكتب من شرطها أن تكون مشتقةً من نفس معنى الكتاب، ومنهي الخبر لا يمكنه أن يستنبط من كل خبرٍ ينهيه مقدمةً تكون باسطاً له، وإنما يقول: كتبت من موضع كذا يوم كذا، والذي أنهيه كذا، بل الذي يلزمه أن يتحداه بطاقته، ويتحراه بجهده، أن يبين ما يطالع به من الأخبار، ويكشفه ويوضحه ويفصح عنه، ولا يقف منه إلا عند الشفاء والإقناع لتتقرر صورته في نفس من ينهيه إليه، اللهم إلا أن يكون الخبر مما يوجب الأدب العدول عن لفظه الخاص به، والإخبار عنه بألفاظٍ تؤدي معناه، ولا يهجم على المخبر بما يسوء سماعه، كأن يكون خبراً يرفعه إلى سلطانٍ عن عبدٍ له قد أطلق فيه ما يضع منه ويسقط مهابته، أو نحو من ذلك مما يثقل على السلطان المنغص منه، فإنه ينبغي أن يعدل في هذا وأمثاله عن التصريح إلى التعريض، ومن التصحيح إلى التمريض، وعن المكاشفة إلى التورية، وأن يأتي بألفاظ تدل على معاني ما يروم إبداءه، ويحرص على صورة منزلة السلطان وتوقيره عن قرع سمعه بما يكرهه ولا تجوز مقابلته به، وأن يقصد إلى استعمال الإيجاز والإطناب في المواضع التي تحتمل كلاً منهما، فهذا ما يمكن أن يتعرف من رسوم هذا الباب.
قال: ومن نفذ فهمه وخاطره في الصناعة وتدرب فيها، يكتفي بهذه اللمعة ولا يحتاج إلى زيادةٍ عليها.
في الإخبار بوقوع مطر وسيل:
من ترسل أبي الحسين بن سعد: فالماء منه يفيض على العمران، بعد أن ضاقت به المغايص والغدران، فأتى على كثير من التلال والروابي، فضلاً عن الرساتيق والقرى، وصار الوادي على اتساع عرضه، وامتداد طوله، وسعة مصبه، وفسحة مغيضه، لا يفي بهضمه، ولا يقوم بحمله، ففاض منه ما عطل العمران ونسق الدور ومحق الزروع، فعظم به البلاء، وكثر له الجلاء، وشمل الفساد، وعظم الخراب.
صدر كتاب بإخبارٍ عن الخليفة:
كتبت، ومولانا أمير المؤمنين في توطد من خلافته، وتمهدٍ من دولته، وعلوٍ من رأيه، ونفاذٍ من كلمته، وعزٍ من سلطانه، وارتفاع من شانه، ونعم سابغةٍ عليه وعلى أهل طاعته، قالصةٍ عن أعدائه وأهل مخالفته، واستقامةٍ من أطرافه وثغوره، واستتباب من أحوال وأموره، الحمد لله على إحسانه حمداً لا يقف دون رضاه، ولا يحيط بمقداره سواه.
صدر بإخبار عن الوزير:
كتبت، وحضرة الوزارة السامية في نعمٍ مخصبة الأكناف، بعيدة الأطراف، سادرة الويل، ساحبة الذيل، وما أنظر فيه من أمر دولته منتظم، وأراعيه من أحوال رعيته ملتئم، وقد وطأ الله له أوعار السياسة والتدبير، ووقفه على جواد المصلحة في التقديم والتأخير، والحمد لله حمدًا يستقل بحقه فيقضيه، وبواجبه فيؤديه، وينتهي إليه عز سلطانه فيرضيه.
صدر بإخبارٍ عن أمير:
كتبت، والأمير في علوٍ من سلطانه، وارتفاعٍ من شانه، وظفرٍ يواكب ألويته، ونصرٍ يصاحب دولته، ووافى علي من ظله، وشملني من فضله، ما سبغ لباسه، وطابت أغراسه، والحمد لله اعترافاً بنعمته، حمدًا يوجب شمول منته، ويستدعي الشكر عليها، ويقضي بمزيدٍ منها.
صدر بأخبارٍ عن عافية المكتوب عنه:
كتبت، وأنا صالح الحال، وقد من الله تعالى بالعافية والإنعاش، والإقالة والا اش، وأعاد إلي الصحة بعد نبوها وذهابها، والسلامة بعد نجعها وإغرابها، وأسبل النعمة بعد الإنذار، والتحذير من الاغترار، ممحصاً بما ألم من الآلام عصب الأيام، والحمد لله أولى ما تليت به النعم، وطرز به المفتتح والمختتم، حمداً يؤمن من التغيير والتبديل، ويعيذ من الانتقال والتحويل.
ابن أبي الخصال في الإخبار عن زلزلة عظيمةٍ وقعت بمدينة قرطبة من الأندلس.
الشيخ الأجل، الولي الأكرم الأفضل، أبو فلان، الذي أطرفه الله تعالى بعجائب الأخبار، وأذهب به في مسلك الاتعاظ ومنهج الادكار، أبقاه الله آخذاً في سنن الانزعاج ونهج الازدجار. المخلص له المحض الناصع من الولاء، ومعرفة غريب الآثار وعجيب الأنباء، فلان.
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي جعل عبره أنواعاً متلونةً وصنوفاً، وأرسل الآيات {وما نُرْسِلُ بالآياتِ إلاَّ تَخْوِيفاً}. والصلاة على سيدنا محمدٍ المصطفى صلاةً طيبةً تعبق تأريجاً وتضوع تعريفاً، وعلى آله وأصحابه الطاهرين الذين حضروا حروباً وشهدوا زحوفاً، والدعاء لسيدنا الإمام أمير المؤمنين في نصرٍ عزيزٍ يؤنس مذعوراً ويؤمن مخوفاً، فإني كتبته- كتب الله لكم دعةً حافظةً وأماناً، وتصديقاً بآيات الله البينة وبرهاناً- من موضع كذا، عند ما طرأ علينا ما كحل العيون بقذاها، ومنعها لذيذ كراها، وأخفق الضلوع الحانية وأقلق مصارين حشاها، وهو أن الله، عز وجل، ذكر عباده إن نفعت الذكرى، ونبههم إن تنبهوا ولم يأمنوا منه كيداً مبيراً ولا مكراً، وذلك بزلزال قضى به على قرطبة وبعض أعمالها، وملأ نفوس ساكنيها من روعاتها وأوجالها، وحالت لذلك في الخوف والارتفاع أقبح حالها، حتى نحوا إلى الاستكانة والضراعة، وأطاع الله من لم يكن له قبل ذلك طاعة، وخشوا بل كانوا يوقنون أنها زلزلة الساعة. وكان من عظيم آثارها، وكريه إيرادها وإصدارها انهدام القبة العظمى في المسجد الجامع صانه الله، وكانت قبةً أسس على التقوى بناؤها، وذهب في المشارق والمغارب ذكرها العاطر وثناؤها، وتهدمت بسبب ذلك الهدم ديارٌ كثيرة، وحدث به حوادث مبيرة. وأما تلوكة من أعمالها، وكان فيها مبنًى من مباني الروم، فإنه غادرها قاعاً صفصفاً، وقرًا نفنفاً، واضطر ذلك الخطب الفادح، والريح القادح، إلى أن خرج السيد أبو إسحاق وكافة أهل قرطبة من ديارهم، وفروا من الموت بأقواتهم وأصحابهم، ثم إن الله عز وجل تدارك بالرحمى، وكشف تلك الغمى، جعل الله ذلك صقلاً لقلوبنا، وتوبةً عما سبق من ذنوبنا، وعصمنا من جرمنا الموبق وحوبنا وأولانا وإياكم أمناً من الغير، وازدجاراً بما ظهر من العبر، وجعل كلانا جميل الحوادث طيب الخبر، بمنه، والسلام الطيب المبارك ورحمة الله وبركاته.
من كلام المتأخرين في الإخبار بقدوم نائبٍ إلى نيابةٍ.
من ذلك نسخة كتاب عن نائب الشام إلى كافل الممالك الإسلامية مخبراً له بوصوله إلى دمشق، من إنشاء جمال الدين بن نباتة، وهو بعد الألقاب: لا زالت آفاق الممالك مضيةً بأنوار شمسه، هنيةً بأنس سعادته وسعادة أنسه، سنية المقاصد التي قام في كفالتها بنفاسة نفسه، ولا برح يستثمر من خير الدنيا والآخرة ما قدم صنعه الجميل من غرسه، تقبيلاً يشافه به القلم القرطاس، ويود المملوك لو شافه به الخدم ساعياً سعي القلم على الراس. وينهي قيامه بوظائف دعاء ينير الحلك، وولاءٍ يدور بكواكب الإخلاص إدارة الفلك، وحمدٍ تذهب به صفحات الصحف حيث ذهب وتسلك عقود الأفلاك حيث سلك، وأنه خدم بهذه العبودية عند وروده إلى دمشق المحروسة لنيابةٍ كانت عناية مولانا سفيرة أمرها، ومميزة برها، يوم كذا، وسعادة مولانا السلطان- خلد الله ملكه- تعلمه وتعلمه، والغيث ببركات الدولة القاهرة يسايره ويقدمه، وثغر المطر يسابق ثغر المملوك إلى مشافهة الثرى ويلثمه، والرعية منه آمنةٌ في سربها، وادعةٌ بظلال الأبواب الشريفة مع بعدها دعة الصوارم في قربها، وباكر المملوك يوم الاثنين الذي بورك فيه في الخميسين من يوم وجيش، وانتصب لمهماتٍ على مثلها في الخدمة يطيب أن يرفغ لين العيش، مجتهداً فيما هو بصدده، مستمداً من ربه، عز وجل، وسعادة سلطانه برشده، معتداً نعم مولانا فيما يأتي في ذلك من أوفى وأوفر عدده ومدده، والله تعالى يعين المملوك على شكر منن مولانا الباطنة والظاهرة، والغائبة والحاضرة، والمقيمة والمسافرة، ويصل نفع المملوك بولائه في الدنيا والآخرة، ويقيم الرعايا بالأمن من كفالته التي ما برحت بعيون الأعداء فإذا هم بالساهرة.
الأجوبة عن كتب الأخبار:
قال في مواد البيان: الأخبار على أكثر الأحوال لا أجوبة لها، وإنما هي مطالعاتٌ بأمور ينهيها الخدام، وأصحاب البرد إلى السلاطين، مما تخرج أوامرهم إلى الولاة بما تضمنته، مما يقتضيه كل خبر ينهى من سياسةٍ عامة، أو مصلحة تامة، قال: فأما ما يستعمله الإخوان في المكاتبة بالأخبار التي يكل بعضهم إلى بعض الإخبار بها، فمنها ما يقتضي الجواب، ومنها ما لا يقتضيه. قال: وأجوبة ما يقتضي الجواب منها تفتن بحسب افتنان الأخبار والأغراض التي يجيب المجيب بها، وهو أيضاً مما لا يعبر عنه بقولٍ جامعٍ ولا برسم رسم كلي، وإنما يرجع فيه إلى الأمور التي يبتدأ بها ويجاب عنها.
النوع السابع عشر: المداعبة:
قال في مواد البيان: ومعاني المداعبات التي يستعملها الإخوان غير متناهية، والأغراض التي ينتظمها المزاح وتعد من طلاقة النفس لا تقف عند قاصية؛ لأنها مستملاةٌ من أحوالٍ متباينة، ومأخوذةٌ من أمور غير معينة، وحصرها في رسومٍ جامعةٍ يستحيل، وتمثيلها غير مفيد؛ لأنه تعلق لبعضها ببعض، ولا نسبة بين الواحد والآخر، ثم قال: والأحسن بأهل الوداد والصفاء، والأليق بذوي المخالصة والوفاء، أن يتنزهوا في المداعبة الدائرة بينهم عن بذيء اللفظ ومفحشه، ومؤلم الخطاب ومقذعه، ويكفوا اللسان واليد عن الانطلاق بما يدل على خفة الأحلام، والرضا بالرذل من الكلام بسفهاء العوام، ويتحرجوا من إرسال قولٍ يبقى وصمةً على مدى الأيام إذ لا فرق بين جرح اللسان وجرح اليد، وقد نطق بها المثل؛ لما في ذلك من الترفع عن دنايا الأمور التي لا يتنازل إليها الكرماء، والتنزه عن المساقط التي لا يستعملها الأدباء، وصيانة المروءة عما يشينها ويخدشها، وتوقيرها عما ينقصها، والأمن من الجواب الذي ربما قدح في النفس وأثر، وأحمى الصدر وأوغر، ونقل عن التوادد إلى التضادد، وعن التداني إلى التباعد، وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه بقوله من أبياته المنسوبة إليه متقارب.
فربّ كلامٍ يمضّ الحشا ** وفيه من الضّحك ما يستطاب

مع مراعاة السلامة من المداخلة المنطوية على الغل، والمراآة المبنية على المكر، إذا لم يكن للمقابلة على الابتداء الممض بالجواب المريض، وغير ذلك مما لا تؤمن عاقبته، ولا تحسن عائدته. قال: ويكون المستعمل في هذا الفن ما خف موقعه، ولطف موضعه، وهش له سامعه، وتلقاه الوارد عليه مستحلياً لثماره، مستدعياً لأنظاره، ولا يعدل به عن سمت الصدق، وطريق الحق، وموذهب التحرز من المذق، ويقتصر فيه على النادرة المستطرفة، والنكتة المستظرفة، واللمعة المستحسنة، والفقرة المستغربة، دون الإطالة المملة، ولا يجعل المزح غالباً على الكلام، مداخلاً لجميع الأقسام، فإن ذلك يفسد معاني المكاتبة، ويحيل نظام المخاطبة، ويضع من معناها وإن كان شريفاً، ويوخم لفظها وإن كان لطيفاً، ويذهب بجدها في مذهب الهزل ويميله عن القصد؛ وإلى ذلك يشير بعضهم بقوله: [طويل]
أفد طبعك المكدود بالجدّ راحةً ** بلهوٍ وعلّله بشيءٍ من المزح

ولكن إذا أعطيته المزح فليكن ** بمقدار ما يعطى الطّعام من الملح

وأن يقتصد مع ذلك. ثم قال: وينبغي أن يقصد إلى استعمال الدعابة في المواضع اللائقة بها، والأحوال المشابهة لها، ولا يودع باباً من الأبواب ما لا يحتمله من الخطاب، فإن القصد في هذا النوع من المكاتبات إنما هو الإعراب عن الظرف والبراعة، والإبانة عن طلاقة النفس، والانسلاخ من تعبيس الفدامة والجهامة، ثم عقب ذلك بأن قال: ومن وقف من ذلك عند الحد الكافي، ولزم فيه الأدب اللائق بأهل التصافي، دل على ما ذكرناه، وشهد لمستعمله بإحراز ما وصفناه، ومن تعدى ذلك عد من المجون والملاعبة، وحسب من رذالة الطبع ونذالة الخيم وسفه اللسان، وغير ذلك من الأمور التي لا تليق بالكاتبين الكرام، الذين هم خيار الأنام، وولاة النقض والإبرام. وختم ذلك بأن قال: والكاتب إذا كان مهيأ الطبع للانطباع برسوم الصناعة ومناسبة أوضاعها، أغناه الوقوف على هذا القول المجمل في استعمال ما يقع في هذا الباب عن تمثيلٍ مفصل، ولم يذكر له مثالاً.
ابن أبي الخصال:
سيدي وواحدي الذي اجمل ذكره، وأوالي شكره، لا زال مغناك رحيباً، وزمانك خصيباً، ولا زلت تأخذ لأخراك نصيباً، عبدك فلان مؤديها ينتجع الكرام، ويباري في جريها الأيام، فتارة يجمع، وأخرى يفرق، وطوراً يغرب، وطوراً يشرق، وأم الحضرة- وصل الله حراستها وأدام بهجتها ونفاستها- والملك بها غض الشباب، وأخضر الجلباب، وإحسانك إحسانك، ومكانك من المروءة مكانك، فأوسعه قرى، واملأ عينيه على الشبع كرى، أستغفر الله، بل أمجده تبناً وعلفاً، وأركبه حزناً من الأرض ظلفاً، ودونكه لم يقلب أرضه بيطار، ولا لجنايةٍ به جبار، وجرحه جبار، وعنده كما علمت دعاءٌ مباح، وثناءٌ في الشكر مساءً وصباح، والسلام.
من كلام المتأخرين:
كتب بعضهم إلى كمال الدين بن الأثير، وقد جاء إليه في بستانه فلم يجده ولا وجد من أنصفه: حضر المملوك البستان، مستدنياً قطوف الإنعام والإحسان، واستمطر سحائب فضله، وهز إليه بجذع نخله، فلم تتساقط عليه رطباً جنياً، فعلم أنه قد جاء شيئاً فرياً، فثبت نفسه مع تصاعد الأنفاس، والطمع ينشده: [كامل]
ما في وقوفك ساعةً من باس فانطلق حتى أتى القرية مستطعماً أهلها فأبوا أن يضيفوه، مستعطفاً حاشيته الرقيقة فأبوا حاشيته أن يستعطفوه، وقال كلٌ منهم: تطالب بالقرى كما تطالب بدينك، ارجع حيث شئت هذا فراق بيني وبينك. وعلم أنه لو أقام بها جداراً لما أعطي عليه أجراً، ولو حأول قرًى لسمع من التوبيخ ما لم يستطع عليه صبراً، فرجع بخفي حنين، بعد مشاق جرعت كاسات الحين، فأين هذه المعاملة مما نشيعه عنه من كريم الخلال؟ وكيف نشكو نقص حظٍ وله كمال الإحسان وإحسان الكمال؟
الأجوبة عن رقاع المداعبة:
قال في مواد البيان: ينبغي للمجيب عن المداعبة أن يشتق من نفس الابتداء جواباً مناسباً لها، وأن يبنيه متى أحب الأخذ بالفضل على المسامحة، واطراح المناقشة، والإغضاء عما يمض إبقاءً على المودة، وتحسيناً لقبح الصديق، وتعوداً لعادة الحلم والاحتمال، وأن يذهب في الجواب مذهب الاختصار، وإيراد النكت الرائعة كما في الابتداء على ما تقدم.